نام کتاب : إحياء علوم الدين نویسنده : الغزالي، أبو حامد جلد : 1 صفحه : 74
الموت وعلى هذا الاصطلاح يوصف اليقين بالضعف والقوة ونحن إنما أردنا بقولنا إن من شأن علماء الآخرة صرف العناية إلى تقوية اليقين بالمعنيين جميعاً وهو نفي الشك ثم تسليط اليقين على النفس حتى يكون هو الغالب المتحكم عليها المتصرف فيها
فإذا فهمت هذا علمت أن المراد من قولنا إن اليقين ينقسم ثلاثة أقسام بالقوة والضعف والكثرة والقلة والخفاء والجلاء فأما بالقوة والضعف فعلى الإصطلاح الثاني وذلك في الغلبة والاستيلاء على القلب ودرجات معاني اليقين في القوة والضعف لا تتناهى وتفاوت الخلق في الاستعداد للموت بحسب تفاوت اليقين بهذه المعاني وأما التفاوت بالخفاء والجلاء في الاصطلاح الأول فلا ينكر أيضاً أما فيما يتطرق إليه التجويز فلا ينكر أعني الاصطلاح الثاني وفيما انتفى الشك أيضاً عنه لا سبيل إلى إنكاره فإنك تدرك تفرقة بين تصديقك بوجود مكة ووجود فدك مثلاً وبين تصديقك بوجود موسى ووجود يوشع عليهما السلام مع أنك لا تشك في الآمرين جميعاً فمستندهما جميعاً التواتر ولكن ترى أحدهما أجلى وأوضح في قلبك من الثاني لأن السبب في أحدهما أقوى وهو كثرة المخبرين وكذلك يدرك الناظر هذا في النظريات المعروفة بالأدلة فإنه ليس وضوح ما لاح له بدليل واحد كوضوح ما لاح له بالأدلة الكثيرة مع تساويهما في نفي الشك وهذا قد ينكره المتكلم الذي يأخذ العلم من الكتب والسماع ولا يراجع نفسه فيما يدركه من تفاوت الأحوال
وأما القلة والكثرة فذلك بكثرة متعلقات اليقين كما يقال فلان أكثر علماً من فلان أي معلوماته أكثر
ولذلك قد يكون العالم قوى اليقين في جميع ما ورد الشرع به وقد يكون قوى اليقين في بعضه فإن قلت قد فهمت اليقين وقوته وضعفه وكثرته وقلته وجلاءه وخفاءه بمعنى نفي الشك أو بمعنى الاستيلاء على القلب فما معنى متعلقات اليقين ومجاريه وفي ماذا يطلب اليقين فإني ما لم أعرف ما يطلب فيه اليقين لم أقدر على طلبه فاعلم أن جميع ما ورد به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم من أوله إلى آخره هو من مجاري اليقين فإن اليقين عبارة عن معرفة مخصوصة ومتعلقة المعلومات التي وردت بها الشرائع فلا مطمع في إحصائها ولكني أشير إلى بعضها وهي أمهاتها فمن ذلك التوحيد وهو أن يرى الأشياء كلها من مسبب الأسباب ولا يلتفت إلى الوسائط بل يرى الوسائط مسخرة لا حكم لها فالمصدق بهذا موقن فإن انتفى عن قلبه مع الإيمان إمكان الشك فهو موقن بأحد المعنيين فإن غلب على قلبه مع الإيمان غلبة أزالت عنه الغضب على الوسائط والرضا عنهم والشكر لهم ونزل الوسائط في قلبه منزلة القلم واليد في حق المنعم بالتوقيع فإنه لا يشكر القلم ولا اليد ولا يغضب عليهما بل يراهما آلتين مسخرتين وواسطتين فقد صار موقناً بالمعنى الثاني وهو الإشراف وهو ثمرة اليقين الأول وروحه وفائدته
ومهما تحقق أن الشمس والنجوم والجمادات والنبات والحيوان وكل مخلوق فهي مسخرات بأمره حسب تسخير القلم في يد الكاتب وأن القدرة الأزلية هي المصدر للكل استولى على قلبه غلبة التوكل والرضا والتسليم وصار موقناً بريئاً من الغضب والحقد والحسد وسوء الخلق فهذا أحدد أبواب اليقين
ومن ذلك الثقة بضمان الله سبحانه بالرزق في قوله تعالى {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} واليقين بان ذلك يأتيه وأن ما قدر له سيساق إليه ومهما غلب ذلك على قلبه كان مجملاً في الطلب ولم يشتد حرصه وشرهه وتأسفه على ما فاته وأثمر هذا اليقين أيضاً جملة من الطاعات والأخلاق الحميدة
ومن ذلك أن يغلب على قلبه أن من يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرة شراً يره وهو اليقين بالثواب والعقاب حتى يرى نسبة الطاعات إلى الثواب كنسبة الخبز إلى الشبع ونسبة المعاصي إلى العقاب كنسبة السموم والأفاعي إلى الهلاك فكما يحرص على التحصيل للخبز طلباً للشبع فيحفظ قليله وكثيره فكذلك يحرص على الطاعات كلها قليلها
نام کتاب : إحياء علوم الدين نویسنده : الغزالي، أبو حامد جلد : 1 صفحه : 74