responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 70
وَقَالَ أَصْحَابُ السِّيَاسَةِ: إِذَا تَعَارَضَتِ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ، قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ.
فَجَعَلَتْ كُلُّ طَائِفَةٍ قُبَالَةَ دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ طَاغُوتًا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ.
فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَكُمُ النَّقْلُ وَلَنَا الْعَقْلُ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ أَصْحَابُ آثَارٍ وَأَخْبَارٍ وَنَحْنُ أَصْحَابُ أَقْيِسَةٍ وَآرَاءٍ وَأَفْكَارٍ. وَأُولَئِكَ يَقُولُونَ: أَنْتُمْ أَرْبَابُ الظَّاهِرِ، وَنَحْنُ أَهْلُ الْحَقَائِقِ. وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: لَكُمُ الشَّرْعُ وَلَنَا السِّيَاسَةُ. فِيَا لَهَا مِنْ بَلِيَّةٍ، عَمَّتْ فَأَعْمَتْ، وَرَزِيَّةٍ رَمَتْ فَأَصَمَّتْ، وَفِتْنَةٍ دَعَتِ الْقُلُوبَ فَأَجَابَهَا كُلُّ قَلْبٍ مَفْتُونٍ، وَأَهْوِيَةٍ عَصَفَتْ. فَصُمَّتْ مِنْهَا الْآذَانُ، وَعَمِيَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ. عُطِّلَتْ لَهَا - وَاللَّهِ - مَعَالِمُ الْأَحْكَامِ. كَمَا نُفِيَتْ لَهَا صِفَاتُ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَاسْتَنَدَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى ظُلْمِ وَظُلُمَاتِ آرَائِهِمْ، وَحَكَمُوا عَلَى اللَّهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ بِمَقَالَاتِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَأَهْوَائِهِمْ. وَصَارَ لِأَجْلِهَا الْوَحْيُ عُرْضَةً لِكُلِّ تَحْرِيفٍ وَتَأْوِيلٍ، وَالدِّينُ وَقْفًا عَلَى كُلِّ إِفْسَادٍ وَتَبْدِيلٍ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الِاعْتِرَاضُ عَلَى أَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ. وَهَذَا اعْتِرَاضُ الْجُهَّالِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ لَا تُحْصَى.
وَهُوَ سَارٍ فِي النُّفُوسِ سَرَيَانَ الْحُمَّى فِي بَدَنِ الْمَحْمُومِ. وَلَوْ تَأَمَّلَ الْعَبْدُ كَلَامَهُ وَأُمْنِيَتَهُ وَإِرَادَتَهُ وَأَحْوَالَهُ، لَرَأَى ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ عَيَانًا، فَكُلُّ نَفْسٍ مُعْتَرِضَةٍ عَلَى قَدَرِ اللَّهِ وَقَسْمِهِ وَأَفْعَالِهِ، إِلَّا نَفْسًا قَدِ اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ، وَعَرَفَتْهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُصُولُ الْبَشَرِ إِلَيْهَا. فَتِلْكَ حَظُّهَا التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ. وَالرِّضَا كُلُّ الرِّضَاءِ.
وَأَمَّا نَقْضُ رُعُونَةِ التَّعَرُّضِ، فَيُشِيرُ بِهِ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، لَا تَتِمُّ الْمُرَاقَبَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِنَقْضِهِ، وَهُوَ إِحْسَاسُ الْعَبْدِ بِنَفْسِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَأَفْكَارِهِ حَالَ الْمُرَاقِبَةِ، وَالْحُضُورِ مَعَ اللَّهِ. فَإِنَّ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ مِنْهُ، لِحِجَابِ الْحَقِّ لَهُ عَنْ كَمَالِ الشُّهُودِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعَبْدِ مَعَ مَدَارِكِهِ وَحَوَاسِّهِ وَمَشَاعِرِهِ، وَأَفْكَارِهِ وَخَوَاطِرِهِ، عِنْدَ الْحُضُورِ وَالْمُشَاهَدَةِ، هُوَ تَعَرُّضٌ لِلْحِجَابِ. فَيَنْبَغِي أَنَّ تَتَخَلَّصَ مُرَاقَبَةُ نَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْكَ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ. وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي الذِّكْرِ. فَتُذْهَلُ بِهِ عَنْ نَفْسِكَ وَعَمَّا مِنْكَ. لِتَكُونَ بِذَلِكَ مُتَهَيِّئًا مُسْتَعِدًّا لِلْفَنَاءِ عَنْ وُجُودِكَ، وَعَنْ وُجُودِ كُلِّ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ سُبْحَانَهُ.
وَهَذَا التَّهَيُّؤُ وَالِاسْتِعْدَادُ: لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَقْضِ تِلْكَ الرُّعُونَةِ. وَالذِّكْرُ يُوجِبُ الْغَيْبَةَ عَنِ الْحِسِّ. فَمَنْ كَانَ ذَاكِرًا لِنَظَرِ الْحَقِّ إِلَيْهِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ حَدِيثِ نَفْسِهِ وَخَوَاطِرِهِ وَأَفْكَارِهِ: فَقَدْ تَعَرَّضَ وَاسْتَدْعَى عَوَالِمَ نَفْسِهِ، وَاحْتِجَابَ الْمَذْكُورِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ حَضْرَةَ الْحَقِّ تَعَالَى لَا يَكُونُ فِيهَا غَيْرُهُ.

نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 70
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست