responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 298
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا الْمَثَلُ، فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ: أَنْ رَكَّبَ الْإِنْسَانَ - بَلْ وَسَائِرَ الْحَيَوَانِ - عَلَى طَبِيعَةٍ مَحْمُولَةٍ عَلَى قُوَّتَيْنِ: غَضَبِيَّةٍ. وَشَهْوَانِيَّةٍ. وَهِيَ الْإِرَادِيَّةُ.
وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ هُمَا الْحَامِلَتَانِ لِأَخْلَاقِ النَّفْسِ وَصِفَاتِهَا. وَهُمَا مَرْكُوزَتَانِ فِي جِبِلَّةِ كُلِّ حَيَوَانٍ. فَبِقُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ: يَجْذِبُ الْمَنَافِعَ إِلَى نَفْسِهِ. وَبِقُوَّةِ الْغَضَبِ: يَدْفَعُ الْمَضَارَّ عَنْهَا. فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الشَّهْوَةَ فِي طَلَبِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ: تَوَلَّدَ مِنْهَا الْحِرْصُ. وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْغَضَبَ فِي دَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْ نَفْسِهِ: تَوَلَّدَ مِنْهُ الْقُوَّةُ وَالْغَيْرَةُ. فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ الضَّارِّ: أَوْرَثَهُ قُوَّةَ الْحِقْدِ. وَإِنْ أَعْجَزَهُ وُصُولُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَرَأَى غَيْرَهُ مُسْتَبِدًّا بِهِ: أَوْرَثَهُ الْحَسَدَ. فَإِنْ ظَفِرَ بِهِ: أَوْرَثَتْهُ شِدَّةُ شَهْوَتِهِ وَإِرَادَتُهُ: خُلُقَ الْبُخْلِ وَالشُّحِّ. وَإِنِ اشْتَدَّ حِرْصُهُ وَشَهْوَتُهُ عَلَى الشَّيْءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا بِالْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِيهِ: أَوْرَثَهُ ذَلِكَ الْعُدْوَانَ، وَالْبَغْيَ وَالظُّلْمَ. وَمِنْهُ يَتَوَلَّدُ: الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ. فَإِنَّهَا أَخْلَاقٌ مُتَوَلَّدَةٌ مِنْ بَيْنِ قُوَّتَيِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ، وَتَزَوُّجِ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ.
فَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا: فَالنَّهْرُ مِثَالُ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ. وَهُوَ مُنْصَبٌّ فِي جَدْوَلِ الطَّبِيعَةِ وَمَجْرَاهَا إِلَى دُورِ الْقَلْبِ وَعُمْرَانِهِ وَحَوَاصِلِهِ، يُخَرِّبُهَا وَيُتْلِفُهَا وَلَا بُدَّ. فَالنُّفُوسُ الْجَاهِلَةُ الظَّالِمَةُ تَرَكَتْهُ وَمَجْرَاهُ. فَخَرَّبَ دِيَارَ الْإِيمَانِ. وَقَلَعَ آثَارَهُ. وَهَدَمَ عُمْرَانَهُ. وَأَنْبَتَ مَوْضِعَهَا كُلَّ شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، مِنْ حَنْظَلٍ وَضَرِيعٍ وَشَوْكٍ وَزَقُّومٍ. وَهُوَ الَّذِي يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْمَعَادِ.
وَأَمَّا النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ الْفَاضِلَةُ: فَإِنَّهَا رَأَتْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا النَّهَرِ. فَافْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ.
فَأَصْحَابُ الرِّيَاضَاتِ وَالْمُجَاهَدَاتِ، وَالْخَلَوَاتِ وَالتَّمْرِينَاتِ: رَامُوا قَطْعَهُ مِنْ يَنْبُوعِهِ. فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا طَبَعَ عَلَيْهِ الْجِبِلَّةَ الْبَشَرِيَّةَ. وَلَمْ تَنْقَدْ لَهُ الطَّبِيعَةُ. فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ. وَدَامَ الْحَرْبُ. وَحَمِيَ الْوَطِيسُ. وَصَارَتِ الْحَرْبُ دُوَلًا وَسِجَالًا. وَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَاهُمْ إِلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى إِزَالَةِ تِلْكَ الصِّفَاتِ.
وَفِرْقَةٌ أَعْرَضُوا عَنْهَا. وَشَغَلُوا نُفُوسَهُمْ بِالْأَعْمَالِ. وَلَمْ يُجِيبُوا دَوَاعِيَ تِلْكَ الصِّفَاتِ مَعَ تَخْلِيَتِهِمْ إِيَّاهَا عَلَى مَجْرَاهَا، لَكِنْ لَمْ يُمَكِّنُوا نَهْرَهَا مِنْ إِفْسَادِ عُمْرَانِهِمْ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِتَحْصِينِ الْعُمْرَانِ، وَإِحْكَامِ بِنَائِهِ وَأَسَاسِهِ وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ النَّهْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ. فَإِذَا وَصَلَ وَصَلَ إِلَى بِنَاءٍ مُحْكَمٍ فَلَمْ يَهْدِمْهُ. بَلْ أَخَذَ عَنْهُ يَمِينًا وَشِمَالًا. فَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَّةَ عَزِيمَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ فِي الْعِمَارَةِ، وَإِحْكَامِ الْبِنَاءِ. وَأُولَئِكَ صَرَفُوهَا فِي قَطْعِ الْمَادَّةِ الْفَاسِدَةِ مِنْ أَصْلِهَا، خَوْفًا مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ.

نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 298
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست