responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 285
تَعْظِيمُ الْحُقُوقِ. فَإِنَّ مَنْ عَظُمَتِ الْحُقُوقُ عِنْدَهُ قَامَ بِوَاجِبِهَا. وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا. وَاسْتَعْظَمَ إِضَاعَتَهَا. وَعَلِمَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْإِيثَارِ لَمْ يُؤَدِّهَا كَمَا يَنْبَغِي. فَيَجْعَلَ إِيثَارَهُ احْتِيَاطًا لِأَدَائِهَا.
الثَّانِي: مَقْتُ الشُّحِّ. فَإِنَّهُ إِذَا مَقَتَهُ وَأَبْغَضَهُ الْتَزَمَ الْإِيثَارَ. فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّهُ لَا خَلَاصَ لَهُ مِنْ هَذَا الْمَقْتِ الْبَغِيضِ إِلَّا بِالْإِيثَارِ.
الثَّالِثُ: الرَّغْبَةُ فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَبِحَسَبِ رَغْبَتِهِ فِيهَا: يَكُونُ إِيثَارُهُ. لِأَنَّ الْإِيثَارَ أَفْضَلُ دَرَجَاتِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.

[فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ]
فَصْلٌ
قَالَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا غَيْرِهِ. وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ. وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ، وَضَعُفَ عَنْهُ الطَّوْلُ وَالْبَدَنُ.
إِيثَارُ رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى غَيْرِهِ: هُوَ أَنْ يُرِيدَ وَيَفْعَلَ مَا فِيهِ مَرْضَاتُهُ، وَلَوْ أَغْضَبَ الْخَلْقَ. وَهِيَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ. وَأَعْلَاهَا لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ. وَأَعْلَاهَا لِأُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ. وَأَعْلَاهَا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ قَاوَمَ الْعَالَمَ كُلَّهُ. وَتَجَرَّدَ لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ. وَاحْتَمَلَ عَدَاوَةَ الْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ فِي اللَّهِ تَعَالَى. وَآثَرَ رِضَا اللَّهِ عَلَى رِضَا الْخَلْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَمْ يَأْخُذْهُ فِي إِيثَارِ رِضَاهُ لَوْمَةُ لَائِمٍ. بَلْ كَانَ هَمُّهُ وَعَزْمُهُ وَسَعْيُهُ كُلُّهُ مَقْصُورًا عَلَى إِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَتَبْلِيغِ رِسَالَاتِهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَاتِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ. حَتَّى ظَهَرَ دِينُ اللَّهِ عَلَى كُلِّ دِينٍ. وَقَامَتْ حُجَّتُهُ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَتَمَّتْ نِعْمَتُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ. وَأَدَّى الْأَمَانَةَ. وَنَصَحَ الْأُمَّةَ. وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ. وَعَبَدَ اللَّهَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ. فَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ مِنْ دَرَجَةِ هَذَا الْإِيثَارِ مَا نَالَ. صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِنْ عَظُمَتْ فِيهِ الْمِحَنُ. وَثَقُلَتْ فِيهِ الْمُؤَنُ.
فَإِنَّ الْمِحْنَةَ تَعْظُمُ فِيهِ أَوْلًا، لِيَتَأَخَّرَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. فَإِذَا احْتَمَلَهَا وَتَقَدَّمَ انْقَلَبَتْ تِلْكَ الْمِحَنُ مِنَحًا. وَصَارَتْ تِلْكَ الْمُؤَنُ عَوْنًا. وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالتَّجْرِبَةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. فَإِنَّهُ مَا آثَرَ عَبْدٌ مَرْضَاةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَرْضَاةِ الْخَلْقِ، وَتَحَمَّلَ ثِقَلَ ذَلِكَ وَمُؤْنَتَهُ، وَصَبَرَ عَلَى مِحْنَتِهِ: إِلَّا أَنْشَأَ اللَّهُ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ وَالْمُؤْنَةِ نِعْمَةً وَمَسَرَّةً، وَمَعُونَةٍ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ مَرْضَاتِهِ. فَانْقَلَبَتْ مَخَاوِفُهُ أَمَانًا، وَمَظَانُّ عَطَبِهِ نَجَاةً، وَتَعَبُهُ رَاحَةً، وَمُؤْنَتُهُ مَعُونَةً، وَبَلِيَّتُهُ نِعْمَةً، وَمِحْنَتُهُ مِنْحَةً، وَسُخْطُهُ رِضًا. فَيَا خَيْبَةَ الْمُتَخَلِّفِينَ، وَيَا ذِلَّةَ الْمُتَهَيِّبِينَ.

نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 285
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست