responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 278
وَهَذَا الْمَنْزِلُ: هُوَ مَنْزِلُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ وَالْإِحْسَانِ.
وَسُمِّيَ بِمَنْزِلِ الْإِيثَارِ لِأَنَّهُ أَعْلَى مَرَاتِبِهِ، فَإِنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ.
إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَنْقُصَهُ الْبَذْلُ، وَلَا يَصْعُبَ عَلَيْهِ. فَهُوَ مَنْزِلَةُ السَّخَاءِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُعْطِيَ الْأَكْثَرَ، وَيُبْقِيَ لَهُ شَيْئًا، أَوْ يُبْقِيَ مِثْلَ مَا أَعْطَى. فَهُوَ الْجُودُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ بِالشَّيْءِ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَرْتَبَةُ الْإِيثَارِ وَعَكْسُهَا الْأَثَرَةُ وَهُوَ اسْتِئْثَارُهُ عَنْ أَخِيهِ بِمَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ. وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: «إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً. فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ» وَالْأَنْصَارُ: هُمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيثَارِ فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَوَصَفَهُمْ بِأَعْلَى مَرَاتِبِ السَّخَاءِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ مَعْرُوفًا.
وَكَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنَ الْأَجْوَادِ الْمَعْرُوفِينَ. حَتَّى إِنَّهُ مَرِضَ مَرَّةً، فَاسْتَبْطَأَ إِخْوَانَهُ فِي الْعِيَادَةِ. فَسَأَلَ عَنْهُمْ؟ فَقَالُوا: إِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحْيُونَ مِمَّا لَكَ عَلَيْهِمْ مِنَ الدَّيْنِ. فَقَالَ: أَخْزَى اللَّهُ مَالًا يَمْنَعُ الْإِخْوَانَ مِنَ الزِّيَارَةِ. ثُمَّ أَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ كَانَ لِقَيْسٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ مِنْهُ فِي حِلٍّ. فَمَا أَمْسَى حَتَّى كُسِرَتْ عَتَبَةُ بَابِهِ، لِكَثْرَةِ مَنْ عَادَهُ.
وَقَالُوا لَهُ يَوْمًا: هَلْ رَأَيْتَ أَسْخَى مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. نَزَلْنَا بِالْبَادِيَةِ عَلَى امْرَأَةٍ. فَحَضَرَ زَوْجُهَا. فَقَالَتْ: إِنَّهُ نَزَلَ بِكَ ضَيْفَانِ. فَجَاءَ بِنَاقَةٍ فَنَحَرَهَا، وَقَالَ: شَأْنُكُمْ؟ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ بِأُخْرَى فَنَحَرَهَا. فَقُلْنَا: مَا أَكَلْنَا مِنَ الَّتِي نَحَرْتَ الْبَارِحَةَ إِلَّا الْيَسِيرَ. فَقَالَ: إِنِّي لَا أُطْعِمُ ضَيْفَانِي الْبَائِتَ. فَبَقِينَا عِنْدَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَالسَّمَاءُ تُمْطِرُ. وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَدْنَا الرَّحِيلَ وَضَعْنَا مِائَةَ دِينَارٍ فِي بَيْتِهِ، وَقُلْنَا لِلْمَرْأَةِ: اعْتَذِرِي لَنَا إِلَيْهِ. وَمَضَيْنَا. فَلَمَّا طَلَعَ النَّهَارُ إِذَا نَحْنُ بَرَجُلٍ يَصِيحُ خَلْفَنَا: قِفُوا. أَيُّهَا الرَّكْبُ اللِّئَامُ. أَعْطَيْتُمُونِي ثَمَنَ قِرَايَ؟ ثُمَّ إِنَّهُ لَحِقَنَا، وَقَالَ: لَتَأْخُذُنَّهُ أَوْ لَأُطَاعِنَنَّكُمْ بِرُمْحِي. فَأَخَذْنَاهُ وَانْصَرَفَ.
فَتَأَمَّلْ سِرَّ التَّقْدِيرِ، حَيْثُ قَدَّرَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ - سُبْحَانَهُ - اسْتِئْثَارَ النَّاسِ عَلَى الْأَنْصَارِ بِالدُّنْيَا - وَهُمْ أَهْلُ الْإِيثَارِ - لِيُجَازِيَهُمْ عَلَى إِيثَارِهِمْ إِخْوَانَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى نُفُوسِهِمْ بِالْمَنَازِلِ الْعَالِيَةِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ عَلَى النَّاسِ. فَتَظْهَرُ حِينَئِذٍ فَضِيلَةُ إِيثَارِهِمْ وَدَرَجَتُهُ وَيَغْبِطُهُمْ مَنِ

نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 278
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست