responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 189
سُبْحَانَهُ لَمْ يَأْمُرْ عِبَادَهُ بِالرِّضَا بِكُلِّ مَا خَلَقَهُ وَشَاءَهُ: زَالَتِ الشُّبَهَاتُ. وَانْحَلَّتِ الْإِشْكَالَاتُ. وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ شَرْعِ الرَّبِّ وَقَدَرِهِ تُنَاقُضٌ، بِحَيْثُ يُظَنُّ إِبْطَالُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، بَلِ الْقَدَرُ يَنْصُرُ الشَّرْعَ. وَالشَّرْعُ يُصَدِّقُ الْقَدَرَ. وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُحَقِّقُ الْآخَرَ.
إِذَا عُرِفَ هَذَا، فَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَسَاسُ الْإِسْلَامِ وَقَاعِدَةُ الْإِيمَانِ. فَيَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِهِ بِلَا حَرَجٍ، وَلَا مُنَازَعَةٍ وَلَا مُعَارَضَةٍ، وَلَا اعْتِرَاضٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
فَأَقْسَمَ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ، وَحَتَّى يَرْتَفِعَ الْحَرَجُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مِنْ حُكْمِهِ، وَحَتَّى يُسَلِّمُوا لِحُكْمِهِ تَسْلِيمًا. وَهَذَا حَقِيقَةُ الرِّضَا بِحُكْمِهِ.
فَالتَّحْكِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِسْلَامِ. وَانْتِفَاءُ الْحَرَجِ: فِي مَقَامِ الْإِيمَانِ. وَالتَّسْلِيمُ: فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ.
وَمَتَّى خَالَطَ الْقَلْبَ بَشَاشَةُ الْإِيمَانِ، وَاكْتَحَلَتْ بَصِيرَتُهُ بِحَقِيقَةِ الْيَقِينِ، وَحَيَّى بِرُوحِ الْوَحْيِ، وَتَمَهَّدَتْ طَبِيعَتُهُ، وَانْقَلَبَتِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ مُطَمَئِنَّةً رَاضِيَةً وَادِعَةً، وَتَلَقَّى أَحْكَامَ الرَّبِّ تَعَالَى بِصَدْرٍ وَاسِعٍ مُنْشَرِحٍ مُسْلِمٍ: فَقَدْ رَضِيَ كُلَّ الرِّضَا بِهَذَا الْقَضَاءِ الدِّينِيِّ الْمَحْبُوبِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، الْمُوَافِقِ لِمَحَبَّةِ الْعَبْدِ وَإِرَادَتِهِ وَرِضَاهُ - مِنَ الصِّحَّةِ، وَالْغِنَى، وَالْعَافِيَةِ، وَاللَّذَّةِ - أَمْرٌ لَازِمٌ بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ. لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَبْدِ، مَحْبُوبٌ لَهُ. فَلَيْسَ فِي الرِّضَا بِهِ عُبُودِيَّةٌ. بَلِ الْعُبُودِيَّةُ فِي مُقَابَلَتِهِ بِالشُّكْرِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْمِنَّةِ، وَوَضْعِ النِّعْمَةِ مَوَاضِعَهَا الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ أَنْ تُوضَعَ فِيهَا، وَأَنْ لَا يُعْصَى الْمُنْعِمُ بِهَا، وَأَنْ يُرَى التَّقْصِيرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ.
وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، الْجَارِي عَلَى خِلَافِ مُرَادِ الْعَبْدِ وَمَحَبَّتِهِ - مِمَّا لَا يُلَائِمُهُ. وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِهِ - مُسْتَحَبٌّ. وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ. وَهَذَا كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَأَذَى الْخَلْقِ لَهُ، وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالْآلَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالرِّضَا بِالْقَدَرِ الْجَارِي عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ - مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ وَيَسْخَطُهُ، وَيَنْهَى عَنْهُ - كَأَنْوَاعِ الظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ: حَرَامٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ. وَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِرَبِّهِ تَعَالَى. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ وَلَا يُحِبُّهُ. فَكَيْفَ تَتَّفِقُ الْمَحَبَّةُ وَرِضَا مَا يَسْخَطُهُ الْحَبِيبُ وَيُبْغِضُهُ؟ فَعَلَيْكَ

نام کتاب : مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين نویسنده : ابن القيم    جلد : 2  صفحه : 189
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست