responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين نویسنده : ابن القيم    جلد : 1  صفحه : 128
مِنْهَا شَيْئًا إلَّا هَرَّ عَلَيْهِ وَقَهَرَهُ لِحِرْصِهِ وَبُخْلِهِ وَشَرَهِهِ، وَمِنْ عَجِيبِ أَمْرِهِ وَحِرْصِهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى ذَا هَيْئَةٍ رَثَّةٍ وَثِيَابٍ دَنِيَّةٍ وَحَالٍ زَرِيَّةٍ نَبَحَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ مُشَارَكَتَهُ لَهُ وَمُنَازَعَتَهُ فِي قَوْلَتِهِ، وَإِذَا رَأَى ذَا هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ وَثِيَابٍ جَمِيلَةٍ وَرِيَاسَةٍ وَضَعَ لَهُ خَطْمَهُ بِالْأَرْضِ، وَخَضَعَ لَهُ، وَلَمْ يَرْفَعْ إلَيْهِ رَأْسَهُ.
وَفِي تَشْبِيهِ مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا وَعَاجِلَهَا عَلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ مَعَ وُفُورِ عِلْمِهِ بِالْكَلْبِ فِي حَالِ لَهَثِهِ سِرٌّ بَدِيعٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الَّذِي حَالُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ انْسِلَاخِهِ مِنْ آيَاتِهِ وَاتِّبَاعِهِ هَوَاهُ إنَّمَا كَانَ لِشِدَّةِ لَهَفِهِ عَلَى الدُّنْيَا لِانْقِطَاعِ قَلْبِهِ عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ شَدِيدُ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، وَلَهَفُهُ نَظِيرُ لَهَفِ الْكَلْبِ الدَّائِمِ فِي حَالِ إزْعَاجِهِ وَتَرْكِهِ، وَاللَّهَفُ وَاللَّهَثُ شَقِيقَانِ وَأَخَوَانِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكَلْبُ مُنْقَطِعُ الْفُؤَادِ، لَا فُؤَادَ لَهُ، إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، فَهُوَ مَثَلُ الَّذِي يَتْرُكُ الْهُدَى، لَا فُؤَادَ لَهُ، إنَّمَا فُؤَادُهُ مُنْقَطِعٌ؛ قُلْت: مُرَادُهُ بِانْقِطَاعِ فُؤَادِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فُؤَادٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ وَتَرْكِ اللَّهَثِ؛ وَهَكَذَا الَّذِي انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لَمْ يَبْقَ مَعَهُ فُؤَادٌ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْ الدُّنْيَا وَتَرْكِ اللَّهَفِ عَلَيْهَا، فَهَذَا يَلْهَفُ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا، وَهَذَا يَلْهَثُ مِنْ قِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْ الْمَاءِ، فَالْكَلْبُ مِنْ أَقَلِّ الْحَيَوَانَاتِ صَبْرًا عَنْ الْمَاءِ، وَإِذَا عَطِشَ أَكَلَ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ صَبْرٌ عَلَى الْجُوعِ؛ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْحَيَوَانَاتِ لَهَثًا، يَلْهَثُ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمَاشِيًا وَوَاقِفًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ؛ فَحَرَارَةُ الْحِرْصِ فِي كَبِدِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوَامَ اللَّهَثِ، فَهَكَذَا مُشْبِهُهُ شِدَّةُ الْحِرْصِ وَحَرَارَةُ الشَّهْوَةِ فِي قَلْبِهِ تُوجِبُ لَهُ دَوَامَ اللَّهَفِ، فَإِنْ حَمَلْت عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةَ وَالنَّصِيحَةَ فَهُوَ يَلْهَفُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ وَلَمْ تَعِظْهُ فَهُوَ يَلْهَفُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ مَثَلُ الَّذِي أُوتِيَ الْكِتَابَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَهْتَدِ إلَى خَيْرٍ، كَالْكَلْبِ إنْ كَانَ رَابِضًا لَهَثَ وَإِنْ طُرِدَ لَهَثَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْحَقِّ، دُعِيَ أَوْ لَمْ يُدْعَ، وُعِظَ أَوْ لَمْ يُوعَظْ، كَالْكَلْبِ يَلْهَثُ طُرِدَ أَوْ تُرِكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَنْبَحُ إنْ حَمَلْت عَلَيْهِ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهَثُ فَإِنَّمَا يَلْهَثُ مِنْ إعْيَاءٍ أَوْ عَطَشٍ إلَّا الْكَلْبَ فَإِنَّهُ يَلْهَثُ فِي حَالِ الْكَلَالِ وَحَالِ الرَّاحَةِ وَحَالِ الصِّحَّةِ وَحَالِ الْمَرَضِ وَالْعَطَشِ، فَضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِمَنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ، وَقَالَ: إنْ وَعَظْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ وَإِنْ تَرَكْتَهُ فَهُوَ ضَالٌّ كَالْكَلْبِ إنْ طَرَدْتَهُ لَهَثَ وَإِنْ تَرَكْتَهُ عَلَى حَالِهِ لَهَثَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [الأعراف: 193]

نام کتاب : إعلام الموقعين عن رب العالمين نویسنده : ابن القيم    جلد : 1  صفحه : 128
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست