وقال حنبل في رواية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله وقالوا" هذا أمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار الخلق للقرآن - نشارك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه. فقال: وعليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين" وقال في رواية المروزي وذكر الحسن بن صالح فقال " كان يرى السيف، ولا نرضى بمذهبه". وإن كان الحادث على بدنه. فنظر، فإن كان زوال العقل، نظرت فيه، فإن كان عارضاً مرجواً زواله كالإغماء، فهذا لا يمنع عقدها ولا استدامتها، لأنه مرض قليل اللبث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- أغمي عليه في مرضه. وإن كَانَ لَازِمًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ. فتنظر، فإن كان مطبقاً لا يتخلله إفاقة، فهذا يمنع الابتداء والاستدامة.
وإذا طرأ عليها أبطلها، لأنه يمنع المقصود الذي هو إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين. وإن كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة نظرت، فإن كان أكثر زمانه الخبل فهو كما لو كان مطبقاً، وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد قيل: يمنع من عقدها، وهل بمنع مِنْ اسْتِدَامَتِهَا؟ فَقِيلَ: يَمْنَعُ مِنْ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يمنع من ابتدائها، لأن في ذلك إخلالاً بالنظر المستحق فيه: وقد قيل: لا يمنع من استدامتها، وإن منع من عقدها، لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلَامَةً كَامِلَةً، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ. وَأَمَّا ذَهَابُ البصر فيمنع من عقدها واستدامتها، لأنه يبطل القضاء ويمنع مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعُ مِنْ صحة الإمامة. وأما عشي الْعَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُولِ الليل، فلا يمنع من عقدها ولا استدامتها، لأنه مرض في زمانه الدعة يرجى زاله. وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الأشخاص إذا رآها لم يمنع الإمامة، وإن كان يدرك الأشخاص ولا يعرف منع من عقدها واستدامتها. فإن كان أخشم الأنف لا يدرك به شم الروائح، أو فقد الذوق الذي لا يفرق به بين الطعوم لم يؤثر ذلك فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ دون الرأي والعمل. وأما الصمم والخرس فيمنعان ابتداء عقد الإمامة، لأنهما يؤثران في التدبير والعمل كما يؤثر العمى، وأما في الاستدامة فقد قيل: لَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْ الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ الْإِشَارَةِ مقامهما فراعينا في ابتدائها سلامة كاملة وفي الخروج نقصاً كاملاً. وأما تمتمة اللسان وثقل السمع مع إدراك الصوت إذا علا فلا يمنع الابتداء ولا الاستدامة، لأن موسى نبي الله عليه السلام لم يمنعه عقدة لسانه من النبوة، فأولى أن لا يمنع الإمامة.
فإن كان مقطوع الذكر والأنثيين لم يمنع من الإمامة ولا من استدامتها، لأن فقد ذلك مؤثر في التناسل دون الرأي والحركة، فجرى مَجْرَى الْعُنَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْيَى بن زكريا عليهما السلام، بذلك وأثنى عليه فقال تعالى (وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين) وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَكَرٌ يَغْشَى بِهِ النِّسَاءَ وكان كالنواة". فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ الْإِمَامَةِ.