وثانياً: إن عدم إفطار ابن عمر لا يعني أنه كان يحرِّم الإفطار ولا يجيزه وذلك أن المسافر يُرخَّص له في الإفطار، ويجوز له الصيام كما بيّنَّا قبل قليل، فأَخْذُ الشخصِ بالإفطار أو أخذُه بالصيام كلاهما جائز، ولا يدل الواحد منهما على منع الآخر.
…وبذلك يظهر أنه ليس لدينا نصٌّ صحيحٌ ولا حسنٌ في تحديد المسافة التي لا بد من قطعها حتى يصح الإفطار. ولا يبقى عندنا بعد ذلك سوى قوله سبحانه وتعالى في الآية 184 من سورة البقرة { ... فمنْ كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ ... } وهذا السفر مطلق لم يُقيَّد بمسافة قصيرة ولا طويلة، فما يطلق عليه اسم السفر فهو عُذر يجيز للصائم أن يفطر.
…أما ما ورد من أحاديث من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر عام الفتح عندما سافر من المدينة إلى مكة ووصل إلى الكَدِيد – والكِدَيد عينُ ماء تبعد عن مكة ثمانية وأربعين ميلاً - أو عندما وصل إلى كُراع الغَمِيم – وهو وادٍ أمام عُسفان يبعد عنها ثمانية أميال فيكون بعيداً عن مكة أكثر من خمسين ميلاً – كما ورد في البند الثاني وفي البند الثالث من البحث [أدلة من قالوا بوجوب الإفطار في السفر] فلا دلالة فيها على مسألتنا مطلقاً، وذلك:
أولاً: إن هذه المسافات قد وقعت اتفاقاً أي هي وقائع أعيان، ووقائع الأعيان لا يُحتجُّ بها على العموم كما هو مقرر في علم الأصول.
وثانياً: إن هذه المسافات جاءت تبين بُعدَ مكان الإفطار عن مكة لا بعده عن المدينة التي خرجوا منها، أي أنها لم تأت لبيان المسافات التي قطعها الرسول صلى الله عليه وسلم في سفره حتى يقال إنها ذات دلالة على الموضوع.
…ومن ذلك يتبين أن من قال بجواز الفطر للصائم إن هو قطع مسافة كذا، أو مسافة كذا، قد أخطأ فيما ذهب إليه، لأن ذلك لم يَرِدْ في الشرع لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية.