نام کتاب : موسوعة الفقه المصرية نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 1 صفحه : 65
تدوين الفقه
أ) حال الأمة العربية حين البعد:
بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأمة العربية أمة بادية، لا تقرا ولا تكتب إلا نادراً، وفى أطراف الجزيرة، حيث كانت بقايا الحضارة الحميرية، وحيث يكثر الاختلاط بالفرس وبالروم، أما سائر الجزيرة فكان على بداوته،. وما كان بمكة حين البعثة ممن يقرأ ويكتب إلا نفر قليل. وقد حرص - عليه الصلاة والسلام -، ومن ورائه المسلمون، على تعليم القراءة والكتابة للمسلمين، ولكن هذا لم يكن من شأنه أن ينقل الأمة الإسلامية فى زمن يسير إلى أن تكون أُمة قارئة كاتبة.
كان من الطبيعى- وهذه حال الأمة الإسلامية- أن يكون اعتمادها فيما تتلقى وما تنقل على الحفظ والرواية لا على الكتابة. ومع هذا فقد كان لرسول الله - صلى الله علية وسلم - كتاب يكتبون له الوحى بالقرآن، ويكتبون له كتبه إلى الملوك والرؤساء، كما كتب بعض المسلمين لنفسه ما تلقى من آى الكتاب الكريم.
وبأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب لعمرو بن حزم وغيره كتاب الصدقات، والديات والفرائض والسنن، وكان عند على صحيفة فيها العقل وفكاك الأسير وألا يقتل مسلم بكافر.
وكان عبد الله بن عمرو يكتب كل شىء يسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى حال الرضا وحال الغضب، وأقره عليه - الصلاة والسلام - على هذا وأومأ بإصبعه إلى فيه وقال له: " اكتب، فو الذى نفسى بيده ما يخرج منه إلا حق ".
وقال أبو هريرة: لم يكن أحد من أصحاب محمد أكثر حديثا منى إلا عبد الله ابن عمرو، فإنه كتب ولم أكتب.
ولكن كل هذا لا يمكن أن يعد تدوينا، ولا يرقى عن أن يكون من المسائل الفردية التى قام بها نفر قليل، ولم يكن من قبيل التدوين للناس.
ب) حال التدوين فى القرن الأول:
ومع أن القراءة والكتابة قد انتشرتا بين المسلمين قبل وفاته - عليه الصلاة والسلام - وكان انتشارهما فى زيادة مطردة بعد ذلك، فإنه لم يكن فى عهد أصحابه تدوين بالمعنى الصحيح إلا للكتاب الكريم، فقد جمع مرتبا فى عهد أبى بكر، ووحدت المصاحف واتخذ المصحف الإمام وأُرسل للأمصار فى عهد عثمان.
أما السنة، وأما الأحكام المروية، وأما ما اجتهد فيه الصحابة والتابعون، فإنه لم يدون شىء منها فى القرن الأول، وبقى الاعتماد فيه على الحفظ والتلقى والرواية. وكان لهم أول الأمر فى شأن التدوين نزعتان: فطائفة تكرهه وتعرض عنه، وتروى فى ذلك من السنة ما يؤيدها، وتقول أن من كتب إنما كتب الشىء ليحفظه، حتى إذا حفظه محاه.
وطائفة لا ترى بذلك بأسا ويردون فى قوة ما احتج به الآخرون ويروون فى ذلك سننا وآثارا.
وكانت النزعة الأولى هى السائدة فى القرن الأول، ويرجع ذلك الى الأمور الآتية:
الأول: إن الأمة العربية بفطرتها ونمط الحياة التى كانت تحياها قد مرنت على الحفظ واعتمدت عليه منذ أمد طويل، فلم يكن ثم ما يدعوها إلى أن تتحمل عناء التدوين وأن تعرض عما ألفته.
الثانى: أن العهد قريب، ولأحكام لم يتسع نطاقها، والاختلاف فيها لم يبلغ ما بلغه فيما بعد وفى وسع كل أحد أن يرجع إلى الحفاظ الثقاة، فكانوا لهذا فى غنية عن تدوين الأحكام.
الثالث- إن الحفظ خير من الكتابة فى الاعتماد عليه وفى الضبط والإتقان وإصابة الصواب. فمن عمد إلى التدوين والكتابة أهمل الحفظ وعول على ما كتب، وقد يضيع منه ما كتب لسبب أو آخر، فيفوت عليه ما روى. كما أن الكتاب مما يمكن أن يزاد فيه وينقص، وأن يدخل عليه التغيير والتحريف والتصحيف، أما المحفوظ فلا يمكن أن يطرأ عليه شىء من ذلك.
ومن أجل كل هذا انقضى القرن الأول. لم يقع فيه تدوين بالمعنى الصحيح.
ج) بدء التدوين:
ولما انتشر الإسلام: واتسعت رقعته وتباعدت أطرافها، وكثرت الأمصار، وتفرق فقهاء الصحابة والتابعين فى الأقطار، واتسع نطاق الاجتهاد والاستنباط، وانتشرت الفتاوى وعظم اختلاف الآراء، كما كانت الفتن والأحداث، كان لابد من تدوين السنة والفقه، فأقدم عليه العلماء قياما بحق العلم والدين، وبدأ التدوين بمعناه الصحيح واسترسل وتتابع حتى كان غيثا منهمرا.
ولم تتفق كلمتهم فى أول من بدأ التدوين. وتحديد ذلك تحديدا دقيقا ليس ميسورا، علىأن الفائدة من الاشتغال بتحقيق ذلك ليس فيها جزاء يكافئ ما فيه من العناء.
ومن نظر فى الأقوال المختلفة عرف أن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز (وقد توفى سنة 101 هجرية) بجمع السنن فجمعت دفترا دفترا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترا.
وأن عبد العزيز بن محمد الداروردى المتوفى سنة 186 هجرية قال: أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب الزهرى المتوفى سنة 124 هجرية.
وقال أبو الزناد: ما كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب الزهرى يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمنا أنه أعلم الناس.
ودون حماد بن سلمة بالبصرة، ومعمر باليمن، ولما حج المنصور سنة 143 هجرية رغب إلى مالك فى تأليف الموطأ، كما رغب هو وولاته العلماء فى التدوين.
وقد دون ابن جريج، وابن عروبة، وابن عيينة، وا لثورى، وغيرهم، ودون سائر فقهاء الأمصار وأصحابهم.
د- أغراض التدوين:
والفقه، كغيره من العلوم والفنون، كان تدوينه فى العصور المختلفة لتحقيق الأغراض الآتية:
أولا: نقل المحفوظ فى الصدور، وقيده فى الأوراق، ليبقى محفوظا لا يذهب بذهاب أهله، ويكون مجموعا فى الأوراق بدلا من تفرق مسائله لدى الأفراد الذين يكون عند أحدهم ما لا يكون عند الآخرين. وهذا هو الغرض الأساسى لأصل التدوين.
ثانيا: ترتيب هذه المجموعات ترتيبا يجعل مسائلها متآلفة. ويكون منها مؤلفات متناسقة من غير تصرف فى عبارات واضعيها. كما وقع فى ترتيب كتب محمد بن الحسن وغيره من المؤلفين الأولين.
ثالثا: شرح هذه المؤلفات بإيضاح معانيها، وإيراد دلالتها من الكتاب والسنة، وذكر الروايات المختلفة فى المسائل.
رابعا: اختصار المؤلفات المبسوطة، بحذف ما تكرر فيها، وإيراد مسائله بعبارات موجزة جامعة، ليسهل على طلاب الفقه استيعابه فى غير ملل وتقصير.
خامسا: شرح هذه المختصرات شروحا مبسوطة أو متوسطة أو وجيزة على قدر الحاجة، وأخيرا التعليق على هذه المختصرات وشروحها بما يكشف عن غوامضها ويصحح أخطاءها، ويخصص عامها، ويقيد مطلقها، وغير ذلك مما يتعلق بها.
وعرفت هذه التعليقات باسم الحواشى لأنها كانت تكتب فى حواشى أوراق الشروح. ثم وجد أخيرا جدا بجانب الحواشى تقريرات هى تعليق على ما جاء بهذه الحواشى وشروحها.
سادسا: إصلاح المختصرات الأولى بمختصرات أخرى تقضى على ما أخذ على الأولى وتضيف إلى مسائلها ما قصرت فى إيراده أو ما حدث بعدها من المسائل. وكانت لهذه المختصرات شروحها والتعليق عليها، ثم ما اشتق منها من المختصرات.
سابعا: تدوين اختلاف الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد يكون بإيراد المذاهب والأقوال مجردة أو مع إشارات موجزة للدلائل بدون توسع فيها.
ثامنا: العناية بآيات الأحكام والتأليف فى تفسيرها خاصة، وبيان آراء المجتهدين فيما استنبط منها. وكذلك العناية بأحاديث الأحكام والسير فى شرحها على هذه الشاكلة.
تاسعا: تدوين القواعد الكلية وأصول المسائل التى انبنى عليها التفريع فى المذاهب المختلفة، وكانت متفرقة فى كلام الأئمة المجتهدين، ومنشورة فى مختلف الأبواب.
عاشرا: الجمع بين المسائل المتشابهة مختلفة الأحكام وبيان ما بينها من الفروق التى دعت إلى اختلاف أحكامها. وهذه المؤلفات. هى المسماة يكتب الفروق.
حادى عشر: وحرصا على تثبيت الأحكام الدقيقة فى الأذهان، لم يكتفوا فى هذا بكتب الفروق ووضعوا هذه المسائل على صورة ألغاز، ودونوا فيها كتب الألغاز الفقهية.
ثانى عشر: الانتصار لرأى معين فى مسألة أو مسائل معينة، بتحقيق ما ورد عنها فى كتب مذهب بعينه أو فى الكتاب والسنة والآثار.
وقد كان هذا قديما فيما كان يسمى بالردود، كرد محمد على أهل المدينة، ورد الشافعى على محمد بن الحسن، ولكن هذا أخيرا كان فى رسائل، تعالج الرسالة منها مسألة حصل اختلاف بشأنها فى الإفتاء أو القضاء، أو اعتراض على رأى ذهب إليه مؤلف، وقد تكونت من هذه الرسائل على مر العصور مجموعات قيمة.
ثالث عشر: تدوين فتاوى مفت معين أو مفتين فى إقليم خاص. وكانت هذه الفتاوى أولا تشتمل على شىء من استنباط الأحكام ممن هم أهل لذلك من مجتهدى المذاهب، أو من أهل التخريج، وأصحاب الوجوه، أو تشتمل على ترجيح قول على آخر ممن هم أهل للترجيح، فكانت تجمع إلى الاجتهاد فى التطبيق اجتهادا أو تخريجا أو ترجيحا، وهذه هى التى كانت تعرف قديما بكتب الواقعات.
ولكن هذا النوع من فتاوى المتأخرين كان تطبيقا للأحكام فى الحوادث، ولم تشتمل على غير ذلك جهرة، وإن لم تخل منه فى الواقع باسم الأخذ بما تقتضيه أقوال الفقهاء وما تدل عليه عبارات المؤلفات المعتبرة.
رابع عشر: وفى عصرنا وجد غرض آخر حمل على التأليف فى الفقه بعد ركوده ركودا تاما هو تيسير الأحكام الفقهية على من يتلقونه فى المدارس العليا ثم بالجامعات المصرية، الذين يصعب عليهم الرجوع إلى المؤلفات الفقهية التى دونها السابقون، فألفت لهم المؤلفات- سهلة العبارة واضحة المعانى- الملائمة لحياتهم العلمية.
خامس عشر: ولما أنشئت مدرسة القضاء الشرعى كان فى منهجها الدراسى دراسة بعض القضايا ذات المبادىء، واستمر ذلك فى تخصص القضاء بها وبكلية الشريعة وفى قسم إجازة القضاء بكلية الشريعة.
وهى دراسة تقوم على نقد الأحكام والتمهيد لذلك بإيراد الأحكام الفقهية والقانونية المتصلة بما فصل فيه الحكم. وهذا لون من التأليف الفقهى لم يكن موجودا من قبل إلا فى كتب المحاضر والسجلات التى أهملت من زمن بعيد.
وقد عنى بعض القضاه بجمع أحكامهم التى يرون أنها أحكام ذات قيمة قضائية. هذه هى الأغراض التى حملت من قبل على التأليف الفقهى وهى وما يماثلها من الأغراض هى التى ينبغى أن تحمل علية، أما إذا لم يأت التأليف بفائدة زائدة على ما جاء فى التأليفات السابقة، ولم يكن إلا نقل ما فيها " قص ولصق "، كما قال بعض أساتذة القانون، كان إراقة للمداد وإتلافا للأوراق، كما قال الفقيه ابن عرفة المالكى.
الهاء) طرائق التدوين:
تبينت، من الأغراض التى حملت وتحمل على تدوين الفقه والتأليف فيه، كثيرا من طرائقه فى العصور المختلفة، وننبه هنا على الطرائق التى كان عليها تدوين الفقه فى بدايته.
فقد دون أول ما دون مختلطا بالسنة وآثار الصحابة والتابعين، كما صنع ابن شهاب الزهرى فى كتبه، وأبو يوسف فى كتاب الآثار، ومحمد بن الحسن فى كتاب الآثار، ومالك فى الموطأ، وسفيان الثورى فى الجامع الكبير، والشافعى فى كتاب اختلاف الحديث، والطحاوى فى معانى الآثار، وفى مشكل الآثار.
وقد وجد بجانب ذلك تلوين الفقه مجردا عن ذلك لا على أنه حديث أو أثر ولا على أنه حجة ودليل، كالكتب والسنة المروية عن محمد بن الحسن، والمدونة التى رواها سحنون عن ابن القاسم، ومختصرات الطحاوى والمزنى وأمثالهما.
كما وجد بجانب ذلك نوع ثالث هو تدوين مسائل الفقه مع أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وسائر وجوه المعانى، كما تجد ذلك فى كتاب المبسوط " الأم " الذى رواه الربيع المؤذن عن الشافعى.
وقد وجدت هذه الأنواع الثلاثة من البداية، ثم انفصل كل من علم الحديث والفقه، فعنيت مؤلفات الأول بالصحيح من الحديث وروايته بأسانيده وطرقه المختلفة، وما فيها من زيادة ونقص، أو اختلاف عبارة، أكثر من عنايتها بما يدل عليه الحديث من الأحكام. أما الأخرى فإن عنايتها متجهة إلى الأحكام، وإنما يذكر الحديث للاستدلال.
فلا يصدق من يقول أن تدوين الحدث تأخر عن تدوين الفقه ليمهد لإفكه ومطاعنه المفتراه.
و) الوثوق بالمؤلفات:
كانت نشأة المسلمين الأولين نشأة تلق ورواية وحفظ، لهذا كانت عنايتهم بالرواية عظيمة فى كل شىء: فى الكتاب الكريم وطريقة أدائه، وفى الحديث والفقه، وفى الشعر والأدب وسائر الفنون.
وإنك لتجد هذا واضحا فى المؤلفات الأولى، فليس من الغريب إذن أنه تلقى رواية الكتب الفقهية حظها العظيم عند الأولين.
فكان لكل فقيه سنده فيما تلقى من الكتب الفقهية حتى يصل به إلى مؤلفيها أنفسهم، ورواية الكتب الفقهية لها فوق ما تثبته من صدور الكتاب عمن نسب إليه، مزية الوصول إلى ما أراده المؤلف من عباراته، ووصول الكتاب إلى من يتلقاه سليما من الزيادة والنقص، وتحريف النساخ وتصحيفهم، وقد تشدد الأولون فى أمر هذه الرواية حتى أن سائلا سأل القاضى بكارا أن يرد على ما جاء بمختصر المزنى مخالفا لمذهب العراقيين، فقال إننى لم أسمع هذا المختصر لا منه ولا ممن رواه عنه، فلا يحل لى أن أرد عليه، ولما عاد إليه وقد رواه عنه رواية موثوقا بها لديه، قال الآن حل لى أن أقول قال المزنى.
ورواية الكتب وما اشتملت عليه من المسائل مختلفة كرواية غيرها، ولذلك كانت الرواية المشهورة تكسب المروى قوه على ما كانت روايته نادرة أو رواية غير معول عليها ولذا ترى الحنفية يقدمون ما فى كتب ظاهر الرواية، كتب محمد الستة، على ما
يخالفه مما جاء فى كتب النوادر، لأن رواية الأولى رواية مشتهرة دون رواية الثانية.
ويقدم المالكية ما روى عن مالك فى مدونة سحنون على ما روى عنه فى غيرها.
ويقدم الشافعية ما روى عنه فى مبسوط الربيع المؤذن "الأم " على ما رواه الزعفرانى عنه.. لهذا السبب نفسه.
ولما تطاول الزمن قلت العناية بالرواية.، ووجد لون منها غريب عجيب، وهو أجازه الراوى بما رواه لآخر من غير أن يكون قد تلقاه منه، ثم توسعوا فى هذه الإجازة التى ليس منها فائدة أصلا، وكانت الإجازة بالمراسلة بين من لم يلتقيا أصلا، وكان هذا فى الفقه كما كان فى السنة نفسها.
وقد بين ابن حزم فساد هذه الإجازات وبطلانها مستندا إلى أمتن الحجج.
وبعد أمد آخر تحللوا من الرواية ومزاياها وقالوا إن نقل الأحكام إما أن يكون بالرواية، أو بالأخذ من الكتب المعروفة التى تداولتها الأيدى وكانت من التصانيف المشهورة لأنها بمنزلة الخبر المتواتر والمشهور.
ثم جاء من لم يلتزم ذلك أيضا وقال لا تشترط الشهرة ولا التواتر، وتكفى غلب الظن يكون ذلك الكتاب هو المسمى بهذا الاسم، بأن وجد العلماء ينقلون عنه، ورأى ما نقلوه عنه موجودا فيه، أو وجد منه أكثر من نسخة، فإنه يغلب على الظن أنه هو، وإلا لزم أنه لا يجوز النقل عن الكتب المطولة المشهورة أسماؤها ولكن لم تتداولها الأيدى حتى صارت بمنزلة الخبر المتواتر أو المشهور لكونها لا توجد إلا فى بعض المدارس أو عند بعض الناس، وفى هذا ضياع لكثير من المؤلفات المعتبرة.
وكلا الرأيين عجيب فان الرواية ليست إلا لإثبات نسبة الكتاب لصاحبه أولا ثم لإثبات أنه هو كما صدر عنه، لا نقض فيه ولا زيادة، ولا تصحيف ولا تحريف، ولا تغيير على أى وضع. وإذا كان للتداول فائدة فى المعنى الأول فإنه لا يغنى فيما عداه شيئا، أما غلبة الظن هذه فإنها لا تنفع فى شىء.
ولقد فتح هذا التهاون بابا واسعا من الشر حتى حمل التلمسانى والمقرى من فقهاء المالكية على القول باب كثرة التأليف قد أفسدت الفقه، لأن الرواية قد تركت وانقطعت سلسلة الاتصال، فكثر التصحيف، ونقلت الأحكام من كتب لا يدرى ما زيد فيها وما نقص، وقد كان أهل المائة السادسة وصدر من السابعة لا يجوزون الفتيا من كتاب التبصرة للخمى لأنها لم تصحح على مؤلفها ولم تؤخذ عنه وأكثر الناس اليوم لا يسيرون على هذا النمط: ولهذا كان التأليف سببا لفساد الفقه.
وإذا كانت الحملة على نفس التأليف قاسية، فإن ما قيل فى شأن المؤلفات غير المروية هو الحق عين الحق. وقد أصبحنا اليوم فى وضع لا يمكن تداركه إلا بالعناية بالمؤلفات ومراجعتها وتحقيقها تحقيقا تاما بالقد ر المستطاع، حتى يؤدى إحياؤها على هذا الوجه قسطا مما كانت تؤديه الرواية. ولقد عمت المصيبة اليوم فى ديارنا بأن تصدى لنشر بعض المبسوطات من لا صلة لهم بالفقه أصلا، ولا هم لهم إلا الربح التجارى، فجمعت من أغاليط الطبع وتحريفاته، فوق ما كان فيها من تحريف الناسخين، ما لا يحصى ولا يعد.
وفى الرجوع إلى مبسوط السرخسى ومدونة سحنون ومقدمات ابن رشد، ما يغنى عن الإفاضة.
إن أول واجب دينى على العامة والرياسات الدينية فى الأقطار الإسلامية أن يقوموا بإحياء هذه المؤلفات على الود الذى ذكرت، وإن هم لم يقوموا بهذا فلا أقل من أن يقوموا بواجب الرقابة نحو ما ينشر من هذه المؤلفات.
والثقة بالكتاب الفقهى لا تقف عند الحاجة إلى الرواية أو ما يؤدى وظيفتها أو قريبا منها، بل هى فى حاجة ملحة إلى قدرة المؤلف وكفايته.
ولقد كان العهد بالمؤلفين الأولين فى الفقه ألا يقدموا على التأليف إلا بعد النضج التام، وبعد أن تكون لهم فى الفقه مكانة مرموقة، وكانوا لا يتعجلون فى إخراج ما شرعوا فيه إلا بعد تنقيح وتمحيص وبذل أقصى المجهود والعناية، مهما كلفهم ذلك من العناء وأبطأ بهم.
وإذا كان ما قيل عن الأزمنة التى ألف فيها أمثال " الهداية " من كتب الحنفية، و " مختصر خليل " من كتب المالكية ...
تشتم منه رائحة المبالغة، فإن دلالته على العناية وبذل المجهود فى التنقيح لا يمكن إنكاره، وإذا كانت أمثال هذه المؤلفات لم تسلم من المآخذ فإنها جاءت من المؤلفات الفقهية الممتازة.
ولكن العهد قد تغير، ولم يحجم عن التأليف فى الفقه الطالب حين طلبه، والمتفقه قبل نضجه، ومن لا يحسن شيئا سوى الجمع والنقل على غير هدى، ولذلك اتفقت كلمة الفقهاء على تقسيم المؤلفات إلى مؤلفات معتبرة يصح الاعتماد عليها والأخذ عنها، وإلى كتب ضعيفة لا يصح التعويل عليها لأن مؤلفيها من الضعفاء الذين ينقلون الغث والثمين، ولا يميزون بين الصحيح وغير الصحيح، وهم فيما يؤلفون كحاطب ليل، وذكروا من هذا القبيل عددا كثيرا ... وإنا لنرى حقا واجبا للفقه على الرياسات الدينية أن تقوم نحو التأليف الفقهى بواجب الرقابة التامة التى تعلن للناس فيما ينشر عنها، ما يكون من الأخطاء فيما يظهر من مؤلفات.
ومما يذهب بالثقة بالمؤلف الفقهى المبالغة فى الاختصار الذى يؤدى إلى تغيير الأحكام وإيرادها على غير وجهها الصحيح، وإنك لتجد هذا فى كثير من الكتب المعروفة اليوم.
وقد اتفقت كلمة المتأخرين على أنه لا يصح الاعتماد على التقييدات وما يكتب بحواشى النسخ، التى لا يعرف من أين أخذت، ولا من أى مرجع نقلت، ومثال هذا ما ينقل على أنه فقه، ويقول ناقله إننى ظفرت بنقله، ولكن شذ عنى موضعه أو يقول وجدت بخط شيخنا فلان كذا، فكل هذا لا يصح الاعتماد عليه ولا يعتبر من الفقه.
كما اتفقت كلمتهم على أنه لا يعول فى نسبة حكم إلى مذهب من المذاهب الفقهية على نقله فى كتب مذهب آخر.
وإنهم لعلى الحق المبين فى هذا فالهداية مع أحكامها، ومع أن مؤلفها جليل القدر، قد وقع فيها ما يكفى للاقتناع بهذا. ولكن إذا كانت الكتب من كتب اختلاف الفقهاء، لا يمكن أن تعتبر كتب مذهب خاص، ولا أن يقال فيها مثل هذا القول، وإن كان مؤلفها من أتباع مذهب بعينه.
ز) لغة التدوين وطريقته:
لغة تدوين الفقه هى اللغة العربية الفصحى، وكان المؤلفون الأولون ممن عرفوا بالفصاحة والبلاغة، أمثال محمد بن الحسن، والشافعى، وإذا كان ما بين أيدينا اليوم من مؤلفاتهم يشوبه شىء، فليس منشؤه إلا ما أصابها من التحريف وما وقع من السقط.
ولما كثر الاختلاط وتطاول الأمد، ونشأ اللحن، كان لهذا أثره فى اللغة التى دون بها الفقه فيما بعد، التى ظهرت عليها مسحة من مسحات العجمة، وقد أدى هذا- وما لعلم الفقه من طبيعته الخاصة- إلى أن كان له أسلوب معين، وإن كانت به عبارات لا تتفق مع قواعد اللغة.
ومن الناس من حاول التكلف لتصحيحها ولكنه ركب شططا، أما من أنصفوا فأراحوا أنفسهم وقرروا أنها من العبارات الخاصة بالفقهاء.
وفى الأزمنة الأخيرة عرف يجانب التأليف بالعربية التأليف باللغات الأخرى،كما يعرف من الرجوع إلى الفتاوى القاعدية ومعروضات المفتى أبى السعود وأمثالهما. والمؤلفات الفقهية الأولى كانت سهلة سلسلة العبارة، سواء فى ذلك كتب الأصول أو شروحها والمختصرات. وكان الشرح مبسوطا موسعا، وكان شرحا بالقول، يبدأ بالعبارة المشروحة يتلوها الشرح متصلا بها، فتبدو عباراته متسقة كأنها عبارات كتاب واحد مستقل، وكان يطلق على هذه الشروح أسماء الكتب المشروحة. فيقولون مثلا " الجامع الصغير، للصدر الشهيد " و " الجامع الكبير، لقاضيخان "، ولا يعنون بهذا إلا شروحهم لهذه الكتب. وكان من جمال هذه الشروح فوق هذا أن تشرح الكتب التى تحتاج إلى عناية " كالجامع الكبير " لمحمد بن الحسن، بأن تبدأ بذكر الأصول التى تنبني عليها، بأن تبدأ بالذى تشرحه وتتبعها بذكر كل مسألة مع بيان ابتنائها على هذه الأصول كما صنع كل من قاضيحان والحصيرى فى شرح " الجامع الكبير " لمحمد بن الحسن.
أما المتأخرون فمنهم من ألح عليهم حب الإيجاز وبالغوا فيه حتى خفيت معانى مختصراتهم وكاد بعضها يشبه الشفرة كمختصر خليل بن إسحاق المالكى. وقد عمد بعضهم إلى التعقيد فيما يأتى به من التعريفات حتى لا تكاد تفهم، كتعريفات ابن عرفة المشهورة.
أما شروحهم فأعرضت عن طريقة الشرح بالقول التى كان يجرى عليها المتقدمون وجعلوا عبارات المختصرات، المتون، تتخلل كلام الشروح مكتوبة بالحمرة وكلام الشارح مكتوبا بالسواد، ثم حلت الأقواس البوم محل الحمرة، وأصبح المداد فى الكتب المطبوعة كله واحدا. وهذه الطريقة فى الشرح تشوش الأفهام وتقطع أوصال الكلام، وقد زادها تشويشا عدم العناية بالحمرة والسواد فى الكتب المنسوخة، وبوضع الأقواس فى الكتب المطبوعة.
أما الحواشى فى الكتب المطبوعة فقد وضعت فى صلب الكتاب لطولها ووضعت الشروح بالحواشى.
ومن عنوا فى مؤلفاتهم من المتأخرين بذكر الخلاف المذهبى والأقوال والوجوه فى المذهب الواحد كانت لهم اصطلاحات أملاها حب الاختصار، كتخصيص جمل معينة بآراء كل فقيه، كما فعل ابن الساعاتى فى مجمع البحرين، أو بتخصيص كلمة (كلديه. وعنده. ورأيه) لكل فقيه، كما فعل الإسفرايينى فى الينابيع، أو بالرقم بالحروف فوق الكلمات إشارة للفقهاء كما صنع الغزالى فى الوجوه والمذاهب، وهذا النوع الأخير من الرموز ليس مأمون العاقبة ولا يمكن الاعتماد عليه.
وكذلك عمد كثير من المتأخرين إلى الرمز للكتب التى ينقلون عنها بحروف مركبة كما فى " قنية الزاهدى " و " جامع الفصول " وكثيرا ما يقع فيها التحريف والخلط ويضيع المقصود منها.
وإذا كان الأصل فى تدوين الكتب الفقهية هو النثر، فإنها نالت حظها من النظم فى كل المذاهب وفى أكثر العصور. ومن النظم الفقهى ما هو سلس مقبول ظاهر المعنى، ومنه ما هو غث ثقيل مملوء بالضرورات هـ ولا يكاد يبين.
وقد عرفنا تقسيم الفقه إلى أنواع كالعبادات، والمعاملات إلخ ... والكتب الفقهية ليست متفقة فى ترتيب هذه الأنواع إلا فى البدء بالعبادات وتختلف فيما وراء ذلك، وليس هذا خاصا بكتب المذاهب المختلفة، بل هو واقع فى كتب المذهب الواحد، لكل فريق ملحظه ومناسباته التى ارتضاها وكثيرا ما يكررونها فى أوائل كل كتاب أو باب.
ح) السرقات الفقهية:
من حق العلم والأمانة على كل مؤلف أن ينسب الرأى أو الفكرة إلى من أبداها، بهذا تقضى الفطرة السليمة كما تقضى به بداهة العقل، وهو ما يحترمه الناس فى جميع العصور وفى جميع الأقطار.
ولكن الفقه، كغيره، كانت فيه سرقات لبعض الآراء التى لم تنسب إلى أهلها، كما وقع من ابن هارون وابن عبد السلام فى شرحيهما لمختصر ابن الحاجب، فقد سرقا كلام ابن رشد ونسباه إلى أنفسهما، وقد أعلن هذا فى مواجهتهما ابن الحباب فلم يستطيعا أن يردا عليه.
والفقه قد وقعت فيه سرقات لا تعرت فى غيره، وهى سرقات كتب برمتها، فهذا رجل اسمه علاء الدين على بن خليل الطرابلسى الحنفى قاضى القدس المتوفى سنة 844 هجرية، سرق تبصرة ابن فرحون المتوفى سنة 799 هجرية برمتها مع تغيير يسير فى بعض العبارات القليلة ونسبها إلى نفسه وسماها معين الحكام، ويظهر أن الذى جرأه على ذلك أن العهد قريب لم يسمح بانتشار التبصرة انتشارا يحول دون هذه السرقة التى لا تغتفر، لما فيها من جناية الكذب وانتحال ما للغير، وما هو أعظم من ذلك نحو الفقه، وهو أنه دس على الحنفية كتابا أكثر أحكامه لا تتفق مع ما فى مذهبهم، وكان من العجب أن ينقل عن هذا الكتاب بعض مؤلفى الحنفية.
وإذا اطلعت على شرح الرملى لمنهاج النووى وشرحه لابن حجر الهيتمى المكى وجدتهما متطابقين فى العبارات إلا فى النزر اليسير، ومن المحال أن يكون هذا من توافق الخواطر، لكن من هو السارق ومن هو المسروق منه؟ العلم عند الله.
أما شرح شمس الدين بن قدامة لمتن المقنع فهو صورة طبق الأصل من المغنى لعمه موفق الدين بن قدامة الذى شرح به مختصر الخرقى. ولست أدرى لم كلف ناشر الكتابين نفسه وطبعهما مع بعضهما، وهل فاته هذا؟ وكيف يفوته مع أن الأمر أوضح من الشمس الطالعة.
ومن السرقات الخفية أن يجد المرء فى البحث والتنقيب والجمع ثم يؤلف ويرشد إلى المراجع التى أخذ منها فيأتى الأخر فيأخذ ثمرة مجهوده دون أن يشير إليه بكلمة ويعزوها إلى مراجعها التى عزا إليها الباحث المطلع الحقيقى، وقد يكون هذا السارق المدلس لم ير هذه المراجع أصلا. وقد نقل مؤلف من كتاب مستشرق لم يذكره بتاتا وذكر المراجع التى ذكرها ومنها مخطوطات فى بلد أجنبى لم يدخله مؤلفنا فى حياته كما أن المخطوط لم يخرج من بلده، وهذه السرقة قد حملت بعض المؤلفين من الباحثين أن يغفلوا المراجع التى أخذوا عنها هربا من هؤلاء السراق المدلسين.
وللسرقات الفقهية ضروب أخرى لا حاجة بنا إلى الإطالة بذكرها.
ط) التدوين الجماعى:
تدوين المؤلفات الكثيرة التى توالى ظهورها على مر القرون المتطاولة كانت مجهود الأفراد، ويستوى فى ذلك المبسوطات والمختصرات وما بينهما، والكتب الخاصة بمذهب من المذاهب الفقهية وكتب اختلاف الفقهاء، ولا يعرف أن جماعة أوأكثر من واحد اشتركوا فى تأليف كتاب أو جمع مجموعة فقهية إلا فى أحوال نادرة جدا لا تكاد تستحق الذكر بإزاء هذا العمر المديد الذى عاشه الفقه الإسلامى وهو عمر بلغ أربعة عشر قرنا إلا يسيرا. والذى نعرفه من ذلك هو ما يأتى:
أ) الكتاب المعروف بالفتاوى الهندية أو العالمكيريه، وهو مجموعة الأحكام الفقهية فى مذهب أبى حنيفة، قام بجمعها جماعة من علماء الهند المشهورين يرأسهم المولى الشيخ نظام، وقد قاموا بهذا العمل بأمر من سلطان الهند أبو المظفر محى الدين محمد أورنك زيب بهادر عالم كيرشاه، الذى بذل لهم كل معونة تكفل لهم رواتبهم وتفتح لهم أبواب خزائن كتبه وبلغ ما أنفق فى هذا السبيل 200 ألف روبية، قاموا بهذا الجمع ليكون ميسورا على الناس أن يقفوا على الروايات والأقوال الصحيحة وما تجرى عليه الفتوى من أحكام هذا المذهب، وهى مجموعة ضخمة تقع فى ستة أجزاء كبار مطبوعة
وقد التزم ناقلوها إسناد كل حكم نقلوه إلى الكتاب الذى أخذ منه ولما يتصرفوا فى عبارات الفقهاء كما ختموا هذه المجموعة بكتاب المحاضر والسجلات وكتاب الشروط، وهما كتابان لا يوجدان إلا فى المبسوطات. وأحكام هذه المجموعة مجردة عن الدلائل غالبا وإن ذكر شىء منها كان يسيرا جدا.
ب) مجلة الأحكام العدلية، وهى كتاب فقهى وضع فى أحكام المعاملات ولم يتناول أحكام النكاح والطلاق والنسب والولاية على النفس والمال ولا أحكام الوصايا والمواريث، وصيغت أحكامها فى مواد على غرار مواد القوانين الوضعية، وقد بلغت ثلاثا وخمسين وأربعمائة وألف مادة تقع فى ستة عشر كتابا. وقد وضعت المجلة لجنة علمية ألفت بديوان العدلية بالآستانة يرأسها ناظر هذا الديوان أحمد جودت باشا.
وكان السبب فى وضعها أن الدولة العثمانية أنشأت محاكم تجارية وضع لها قانون خاص كالقوانين التجارية الأوروبية، وهى تحيل على القوانين المدنية فى بلا دها ولا سبيل إلى ذلك فى الدولة العلية، فالإحالة فيها تكون على مما يقابل القوانين المدنية وهو الأحكام الشرعية. كما أنه أنشئت بالدولة العثمانية محكمة للتمييز، ورجال كل من المحاكم التجارية ومحكمة التمييز لا يسهل عليهم معرفة الأحكام الشرعية من مراجعها فتيسيرا عليه وضعت هذه المجلة. وقد ألزمت الجمعية العلمية الأخذ بالأقوال الراجحة والمفتى بها من مذهب أبى حنيفة عدا بعض مسائل قليلة أخذت فيها بما ليس راجحا فى هذا المذهب الذى لم تخرج المجلة عن أحكامه كما بدأت كل كتاب بالقواعد والضوابط الملائمة، وأكثرها مأخوذ من كتاب " الأشباه والنظائر " لابن نجيم وكل ذلك مفصل بالتقرير الذى رفعة رئيس الجمعية العلمية إلى محمد أمين غالى باشا الصدر الأعظم فى غرة المحرم سنة 1286 هجرية.
وفى شرح يوسف آصاف آخر الكتاب السادس عشر أن تاريخ الإرادة السنية 26 من شعبان سنة 1293 هجرية.
ج) الأحكام التى تخيرتها لجنة بوزارة العدل المصرية وصدر بها القانون رقم 25 لسنة 1920م والقانون رقم 25 لسنة 1929 م وهى أحكام تخيرت من المذاهب الأربعة فى بعض مسائل الأحوال الشخصية.
والأحكام التى تخيرتها لجنة الأحوال الشخصية بمصر من المذاهب الأربعة ومذاهب الصحابة والتابعين ومذهب الطبرى ومذهب ابن حزم ومذهب الزيدية، وأخذت فيها بمبدأ التلفيق، ووضعتها فى مواد صدر بها قانون المواريث رقم 77 لسنة 1943م وقانون الوقف رقم 48 لسنة 1946م وقانون الوصية رقم 71 لسنة 1946م.
هذا هو كل ما نعرفه حتى الآن عن التدوين الجماعى للفقه وهو يختلف عما يراد بالموسوعة التى يراد بها أن تكون جامعة لكل المذاهب الفقهية الباقية، وأن تكون مرتبة على حر وف المعجم فلا يكون تدوينها بطريقة صياغة المواد القانونية إذ أنها لا توضع للإلزام التشريعى.
ى) حاجة الفقه:
الفقه الإسلامى غنى بثروته الضخمة وما حواه من الأقوال والآراء وأعظم المبادىء، وهو فى الوقت نفسه غنى عن شهادة هؤلاء المحدثين الذين بدأوا ينزلون عن شىء من عصبيتهم وغرورهم وكبريائهم، ويشهدون له من أطراف أنوفهم، وأخذنا نطير فرحا بهذا ونتغنى به، هو غنى عن كل هذا، فهو من صنع العليم الخبير وما استنبط من صنعه، وقد شهد له من قبل تاريخه الطويل والحضارات الاجتماعية المتعاقبة، أيام أن كان أسلاف هؤلاء الشهداء يضربون فى الجمالات وينشرون الجور والظلم، وما هداهم الطريق السوى إلا ما وصل إليهم من شعاع المدنية الإسلامية، فما كان لهؤلاء أن يشهدوا ما كان لنا أن نعتز بما شهدوا.
حقا أن الفقه الإسلامى فى أشد الحاجة إلى شيئين:
أن تراثنا من المؤلفات الفقهية قد سلب وهلك الكثير منه- إن لم نقل الأكثر- لعوامل وأسباب كثيرة، والبقية الباقية منه إما حبيسة مكدسة فى أقبية المكتبات بالآستانة أو غيرها أو شبه معتقلة بدور الكتب الأخرى مع أن فيها من المبسوطات والمختصرات ما له أرفع القيمة وعظيم النفع، وإما متداولة منشورة النشر التجارى وبالطريقة الأولى التى تخلق الصعوبات لأهل هذا الفقه وغيرهم البعيدة عما وصل إليه العالم من طرق التحقيق والنشر. فالفقه أحوج ما يكون إلى بعث المقبور، ومسايرة أحدث أساليب النشر ليصبح الفقه الإسلامى ميسورا يسهل الوصول أليه لكل من يبتغيه.
تفرق المسلمون شيعا وأحزابا بسبب الحكم والإمامة والسياسة وأورثهم هذا التنازع الضعف والوهن والفشل والخذلان وتسلط أعدائهم عليهم وعلى ديارهم وأخذهم بنواصيهم، فأماتوا فيهم أحكام ربهم وفرضوا عليهم شرائعهم التى لا تلائم فطرتهم ولا تقاليدهم. وفتنوا من فتنوا من أبنائهم فكانوا أولياءهم وأشد منهم حمية فى تعطيل أحكام الله وحدوده، فحق على المسلمين أن يفيقوا من غشيتهم، وأن يعتصموا بحبل الله جميعا وألا يتفرقوا، وأن يميتوا أسباب خلاف قد انقضىعهده وأن يواجهوا عدوهم بوحدة الكلمة والعودة إلى سيرة السلف الصالح، وحق عليهم أن يعملوا على اجتماع كبار الفقهاء من جميع الأقطار وأئمة المذاهب الإسلامية للتقصى والباحث والتشاور وإعادة سنة الخلفاء الراشدين فى ذلك، ليواجهوا المحدثات من الواقعات والنوازل فيستنبطوا لها أحكامها مما أنزل الله وسنن رسوله واهتدى إليه أئمة الدين، وليتخيروا من كل هذا أصول المسائل والقواعد الكلية التى تكون مصدرا أساسيا لأى تشريع يصدر فى بلد إسلامى، ليعملوا جاهدين على إحياء تراثنا الفقهى المهدد من جميع نواحيه، وليراقبوا التأليف الفقهى المعاصر لينقضوه النقد العلمى الأمين، وليدفعوا بكل ما فيهم من قوة عن الفقه الإسلامى الهجوم الظالم المتواصل الذى أولع به الآخرون، وأن يقوموا بكل ما فيه خير هذا الفقه.
هذا هو ما يحتاج إليه الفقه الإسلامى، وهذا ما يحس به المسلمون فى جميع الأقطار وكان ولا يزال موضع الأحاديث، غير أن لكل من شئونه ما يفتنه ويغويه، أو ما يشغله ويلهيه، أو ما يخيفه ويثنيه. لذا كانت الأعمال قليلة والجهود ضئيلة منثورة. فقد قامت بحيدر أباد الدكن جمعية أحياء المعارف النعمانية ونشرت سلسلة من مؤلفات محمد بن الحسن والصدر الشهيد والسرخسى.
وقام بعض العلماء والموسرين من أهل نجد والحجاز بإحياء طائفة قيمة من المؤلفات الفقهية فى مذهب أحمد.
ونشر بعض اليمنيين شيئا من مؤلفات الفقه الزيدى، كما نشر المرحوم الشيخ محمد بن يوسف أطفيش شرحه لكتاب النيل فى فقه الإباضية.
أما جامعة القاهرة فكان حظها من ذلك أنها عنيت بإحياء كتاب الأصل محمد بن الحسن، وعهدت بذلك إلى الدكتور شفيق شحاته أستاذ القانون المدنى بكلية الحقوق التابعة لها، وعهدت إليه وحده بذلك فأخرج قسما مشتملا على البيع والسلم يقول أنه حققه وعلق عليه. هذا هو ما كان وكفى.
ك) موسوعة دمشق:
فى يونية سنة 1951 م عقدت شعبة الحقوق الشرقية من " المجمع الدولى للحقوق المقارنة" مؤتمرها الثانى فى كلية الحقوق بجامعة باريس للبحوث فى الفقه واطلع المؤتمرون على بحوث الفقهاء فى خمسة موضوعات فقهية كان المجمع قد عينها، وقد قرر المؤتمرون أنهم استخلصوا من هذه البحوث وما جرى حولها أمرين بينوهما وأعلنوا أملهم فى أن تؤلف لجنة لوضع معجم للفقه الإسلامى يسهل الرجوع إلى مؤلفات هذا الفقه فيكون موسوعة فقهية تعرض فيها المعلومات الحقوقية الإسلامية وفقا للأساليب الحديثة.
ومضت الأيام ولم ينشط أحد للعمل على تحقيق هذا الأمل حتى أسست كلية الشريعة بجامعة دمشق سنة 1955م فأقدمت على تحمل هذا العبء وألفت لجنة تقوم بوضع الموسوعة الفقهية، وعملت حتى صدر المرسوم الجمهورى السورى رقم 1711 فى 3 مايو سنة 1956م الذى ينص على أن تصدر كلية الشريعة الإسلامية بالجامعة السورية موسوعة (دائرة معارف) غايتها صياغة مباحث الفقه الإسلامى بمختلف مذاهبه وإفراغها فى مصنف جامع مرتب على غرار الموسوعات القانونية الحديثة بحيث يعرض مواد الفقه الإسلامى عرضا علميا حديثا ويسهل الرجوع إلى نصوصه فى كل موضوع للإفادة منها إلى أبعد حد، ويرشد الباحثين إلى مصادر هذا الفقه. وبين هذا المرسوم الأحكام المرتبطة بهذا الموضوع كما أقر تأليف لجنة للموسوعة.
وبعد الوحدة السورية المصرية صدر القرار الجمهورى رقم 1536 لسنة 1959 م الذى نصت المادة الأولى منه على تعديل الماد الثالثة من المرسوم سالف الذكر.
وقد سار العمل هناك بقدر ما تعين عليه السعة المالية.
12- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية:
وخلال سنة 1960م كانت اتصالات عديدة بين رجال الموسوعة بدمشق وبين السيد وزير الأوقاف وأعوانه انتهت بنتائج حسنة بفضل النوايا الطيبة من الجانبين.
وتحقيقا لأهداف الثورة البناءة، واقتداء بتوجيهات زعيمها، وفق الله وزير الأوقاف - يومئذ- أحسن توفيق، فأنشأ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بلجانه الكثيرة التى تسد الكثير من النقص وتعمل على نصرة الإسلام من النواحى المختلفة، ومن لجان هذا المجلس لجنة لموسوعة الفقه الإسلامى بينت أهدافها وجميع ما يتعلق بها فى المواد (29-33) من القرار الوزارى رقم 1 لسنة 1961م.
وأعيد تشكيل اللجنة بالقرار الوزارى رقم 24 لسنة 1961 بتاريخ 18 يناير سنة 1961م من السوريين والمصريين.
ومنذ البداية صدر القرار الوزارى رقم 33 لسنة 1961م بتسمية الموسوعة التى تقوم اللجنة بوضعها " موسوعة جمال عبد الناصر فى الفقه الإسلامى " للمعانى القيمة التى أفصحت عنها المذكرة الإيضاحية لهذا القرار.
وقد سارت اللجنة بجد وإخلاص ورغبة صادقة، وكان من خطتها فى هذا العمل:
أ) أن تكون الموسوعة مدونة ترتب موادها ترتيب حروف المعجم، مراعى فى ذلك أول الكلمة والحروف التالية لها كما ينطق بها من غير نظر إلى أصلها.
ب) أن تكون أسماء أبواب الفقه مواد مستقلة - مصطلحات - توضع فى ترتيبها الهجائى، أما ما عدا ذلك فيتبع بشأنه ما تقرره لجنة المراجعة ثم اللجنة العامة.
ج) أن تكون الموسوعة جامعة لأحكام المذاهب الفقهية الثمانية التى ذكرت فيما سلف وجمع ما فى كل منها من الأقوال إلا الأقوال الشاذة ساقطة الفكرة.
د) أن يكون إيراد أدلة الأحكام فى الاعتدال وبمقدار ما تستبين به وجهة النظر.
الهاء) أن تتناول الموسوعة مسائل أصول الفقه والقواعد الفقهية لارتباطها الوثيق بالأحكام الفقهية.
و) أن وظيفة الموسوعة ليست الموازنة بين الشرائع ولا بين المذاهب الفقهية ولا ترجيح بعض الأقوال على بعض ولا نشر البحوث والآراء، وإنما وظيفتها جمع الأحكام الفقهية وترتيبها ونقلها فى دقة وأمانة بعبارات سهلة تساير أحوالنا من المراجع الفقهية التى تلقاها الناس بالقبول حتى نهاية القرن الثالث عشر الهجرى، وذلك دون تفرقة بين احول به وغير المعمول به الآن، أما ما عدا ذلك مما ليس من وظيفتها الأصلية فيكون له ملحق خاص.
وإنا نسأله جلت قدرته أن يوفق العاملين فى هذه الموسوعة ويسدد خطاهم ويقيهم أسباب الفشل وشرور أنفسهم ليجاهدوا فى الله حق جهاده.
نام کتاب : موسوعة الفقه المصرية نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 1 صفحه : 65