أَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا يَصِحُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَخَيِّرًا بِلَا دَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ بِالْحُكْمِ لَهُ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، إِذْ لَا مُرَجِّحَ عِنْدَهُ بِالْفَرْضِ إِلَّا التَّشَهِّيَ؛ فَلَا يُمْكِنُ إِنْفَاذُ حُكْمٍ عَلَى أَحَدِهِمَا إِلَّا مَعَ الْحَيْفِ عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ إِنْ وَقَعَتْ لَهُ تِلْكَ النَّازِلَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خَصْمَيْنِ آخَرَيْنِ؛ فَكَذَلِكَ، [أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ؛ فَكَذَلِكَ] [1]، أَوْ يَحْكُمُ لِهَذَا مَرَّةً وَلِهَذَا مَرَّةً، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ومؤدٍّ إِلَى مَفَاسِدَ لَا تَنْضَبِطُ بِحَصْرٍ، ومن ههنا شَرَطُوا فِي الْحَاكِمِ بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ فُقِدَ؛ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الِانْضِبَاطِ إِلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ كَمَا فَعَلَ وُلَاةُ قُرْطُبَةَ حِينَ شرطوا على الحاكم أن لا يَحْكُمَ [إِلَّا بِمَذْهَبِ فُلَانٍ[2] مَا وَجَدَهُ[3]، ثُمَّ بِمَذْهَبِ فُلَانٍ؛ فَانْضَبَطَتِ الْأَحْكَامُ بِذَلِكَ، وَارْتَفَعَتِ الْمَفَاسِدُ الْمُتَوَقَّعَةُ] [4] مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الِارْتِبَاطِ، وَهَذَا مَعْنًى أَوْضَحُ مِنْ إِطْنَابٍ فِيهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِنَّهُ إِذَا أَفْتَى بِالْقَوْلَيْنِ مَعًا عَلَى التَّخْيِيرِ فَقَدْ أَفْتَى فِي النَّازِلَةِ بِالْإِبَاحَةِ وَإِطْلَاقِ الْعِنَانِ، وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ[5] خَارِجٌ عَنِ الْقَوْلَيْنِ وَهَذَا لَا يجوز له [1] ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. [2] هو ابن القاسم؛ كما قاله الباجي. "د". [3] في "ط": "وجدوه". [4] ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. [5] فإن تخييره للسائل في الأخذ بأي القولين شاء إباحة له أن يعمل بأحدهما، وهو غير نفس القولين الدائرين بين النفي من قائل والإثبات من القائل الآخر، وإنشاء حكم شرعي كهذه الإباحة لا يصح قطعًا إلا من مجتهد بدليل، والفرض خلافه، وهذا أولى من قوله: "وإن بلغها ... إلخ"؛ لأنه سلم أن الإباحة قول ثالث غير النفي والإثبات، وعليه لا يكون مانع يمنع المجتهد -إذا وقع له الدليل على الإباحة ومخالفة القولين- من إثباتها وتقريرها حكمًا شرعيًا، فليس الموضوع حينئذ موضوع قولين لمجتهد حتى يتأتى فيه الرد بما بسطه الأصوليون في مسألة أنه لا يصح أن يكون لمجتهد قولان في مسألة واحدة، بل هو حينئذ قول واحد بالإباحة، على أن الإباحة هنا ليست مقعولة؛ لأن الإباحة تخيير بين فعل شيء وتركه، والذي هنا ترديد بين الامتناع من فعل الشيء؛ لأنه حرام، وبين فعله؛ لأنه مباح، فليست تخييرًا بين الفعل والترك. "د".