وَالْمُقَلِّدُ فِي اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا المفتي الذي ذكره؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مُجْتَهِدٍ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ مُجْتَهِدٍ بِالْهَوَى، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ؛ فَهُوَ أَحْرَى بِهَذَا الْأَمْرِ.
فَصْلٌ:
وَقَدْ زَادَ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ؛ حَتَّى صَارَ الخلاف في المسائل
= في حيلة جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا، فيضرب به المرأة ضربة واحدة.
وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم بلالًا إلى بيع التمر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر، فيتخلص من الربا.
فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم، أو أسقط ما أوجبه الله وسوله من الحق اللازم، والله الموفق للصواب" انتهى.
ومن لطيف ما يذكر في جنب الترخص: ما قاله الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن نفسه، في كتابه "صيد الخاطر" "2/ 304"، وقد ترخص في بعض الأمور.
"ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت.
فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! جوابك من وجهين.
أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استفتيت لم تفتي بما فعلت. قالت: لو لم أعتقد جواز ذلك ما فعلته. قلت: إلا أن اعتقادك هو ما ترضينه لغيرك في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نور في قلبك ما أثر مثل هذا عندك: قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدري ما تركت جائزًا بالإجماع، وعدي هجره ورعًا، وقد سلمت".