فَصْلٌ:
وَقَدْ أَدَّى إِغْفَالُ هَذَا الْأَصْلِ إِلَى أَنْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ يُفْتِي قَرِيبَهُ أَوْ صَدِيقَهُ بِمَا لَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ؛ اتِّبَاعًا لِغَرَضِهِ1 وَشَهْوَتِهِ، أَوْ لِغَرَضِ ذَلِكَ الْقَرِيبِ وَذَلِكَ الصَّدِيقِ.
وَلَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا كَمَا وُجِدَ فِيهِ تَتَبُّعُ رُخَصِ الْمَذَاهِبِ اتِّبَاعًا لِلْغَرَضِ وَالشَّهْوَةِ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَصْلُ قَضِيَّةٍ وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ.
فَأَمَّا مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَصْلُ قَضِيَّةٍ، بَلْ هُوَ فِيمَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي عِبَادَتِهِ أَوْ عَادَتِهِ؛ فَفِيهِ مِنَ الْمَعَايِبِ مَا تَقَدَّمَ وَحَكَى عِيَاضٌ فِي "الْمَدَارِكِ"[2]: "قَالَ مُوسَى بْنُ مُعَاوِيَةَ: كُنْتُ عِنْدَ الْبُهْلُولِ بْنِ رَاشِدٍ إِذْ أَتَاهُ ابْنُ فُلَانٍ[3]؛ فَقَالَ لَهُ بُهْلُولٌ: مَا أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: نَازِلَةٌ، رَجُلٌ ظَلَمَهُ السُّلْطَانُ فأخفيته وحلفت بالطلاق
بل أخرجوا الأمر عن كونه قانونًا شرعيًا، وجعلوه متجرًا، حتى بعض المؤلفين في فقه الشافعية ما نصه: "نحن مع الدراهم كثرة وقلة". "د".
قلت: ومن الطرائف ما حكاه ابن حزم في "الإحكام" "6/ 167" عن بعض الفقهاء في زمانه، قال: "قد يحمل اسم التقدم في الفقه في بلد ما عند العامة من لا خير فيه، ومن لا علم عنده، ومن غيره أعلم منه، وقد شهدنا نحن قومًا فساقًا حملوا اسم التقدم في بلدنا وهم ممن لا يحل لهم أن يفتوا في مسألة من الديانة، ولا يجوز قبول شهادتهم، وقد رأيت أنا بعضهم، وكان لا يقدم عليه في وقتنا هذا أحد في الفتيا، وهو يتغطى الديباج الذي هو الحرير المحض لحافًا، ويتخذ في منزله الصور ذوات الأوراح من النحاس والحديد تقذف الماء أمامه، ويفتي بالهوى للصديق فتيا، وعلى العدو فتيا ضدها، ولا يستحي من اختلاف فتاويه على قدر ميله إلى من أفتى، وانحرافه عليه، شاهدنا نحن هذا منه عيانًا، وعليه جمهور أهل بلدنا، إلى قبائح مستفيضة لا نستجيز ذكرها؛ لأننا لم نشاهدها" انتهى.
2 "1/ 330 - ط بيروت". [3] أبهمه المصنف، وهو عبد الرحيم بن أشرس، على ما حكى القاضي عياض.