وَوَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِ احْتَجَّ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْعُمُومَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعُمُومَاتِ[1] الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} إِلَى أَنْ قَالَ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ] قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [2] [الْمُؤْمِنُونَ: 84-89] ؛ فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلَّهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَجَعَلَهُمْ إِذْ أَقَرُّوا بِالرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ فِي الْكُلِّ ثُمَّ دَعْوَاهُمُ الْخُصُوصَ مَسْحُورِينَ لَا عُقَلَاءَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الْعَنْكَبُوتِ: 61] ، يَعْنِي: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنِ الْإِقْرَارِ بِأَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللَّهُ بعد ما أَقَرُّوا[3]؛ فَيَدَّعُونَ لِلَّهِ شَرِيكًا.
وَقَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَار} إِلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزُّمَرِ: 5-6] ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهِ الْإِقْرَارَ بِعُمُومِهِ، وَجَعَلَ خِلَافَ ظَاهِرِهِ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ الظَّاهِرُ حُجَّةً غَيْرَ مُعْتَرَضٍ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ فِي إِقْرَارِهِمْ بمقتضى العموم حجة عليهم لكن الأمر [1] أي: فمع كونها عقلية وثابتة في الواقع بالعقل كما سيقول: "وجعل خلاف ظاهره على خلاف المعقول" هي متفق عليها بين المتناظرين، وهذا الثاني هو محل الاستدلال هنا باعتبار الظواهر؛ لأن العموم المسلم بين الطرفين هو من باب الظاهر في هذه التراكيب. "د". [2] أي: تخدعون وتصرفون عن الحق. "ماء". [3] ليكن على ذكر منك أنهم كانوا يعترفون بأن الله هو الرب الخالق لكل شيء، المالك المتصرف في السماوات والأرض، ولكنهم مع هذا يؤلهون معه شيئًا من مخلوقاته؛ نجومًا، أو حجارة، أو غيرها، يعبدونها؛ فكان الرد عليهم موجهًا إلى أن مستحق العبادة هو المتصرف في الكون وحده، وأنهم يكونون مجانين إذا جمعوا بين الاعتراف بعموم التصرف له وحده وبين تأليه غيره وعبادته، ولذا جعل ختام الآيات الذي هو كالنتيجة قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [المؤمنون: 116] ؛ فجعل المعنى بالحصر، ومحط الرد عليهم هو نفس الشريك في الألوهية والعبادة؛ فقوله: "فيدعون لله شريكًا"؛ أي: في استحقاق العبادة. "د".