الطَّرَفُ الثَّانِي: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُجْتَهِدِ مِنَ الْأَحْكَامِ فيما يتعلق بفتواه
...
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
الْمُفْتِي قَائِمٌ[1] فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: النَّقْلُ الشَّرْعِيُّ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ" [2].
وَفِي "الصَّحِيحِ": "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ؛ حَتَّى إِنِّي لِأَرَى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ". قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْعِلْمُ" [3]. وهو في معنى الميراث. [1] القيام مقامه صلى الله عليه وسلم بجملة أمور، منها: الوراثة في علم الشريعة بوجه عام، ومنها إبلاغها الناس، وتعليمها للجاهل بها، والإنذار بها كذلك، ومنها بذل الوسع في استنباط الأحكام في مواطن الاستنباط المعروفة، فكل مرتبة من هذه المراتب أعلى مما قبلها، فالمرتبة الأولى استدل عليها بحديثين وبمجموع الآيتين؛ فصدر الآية الثانية يفيد وراثة العلم، وعجز الثانية مع الأولى يفيدان الوراثة بوجه عام، والوراثة في النذارة بوجه خاص ولو أخرهما إلى الرتبة الثانية؛ ليستدل بهما عليها كان أجود، والرتبة الثانية استدل عليها بالأحاديث الثلاثة، والثالثة أدلتها هي عين أدلة الاجتهاد، ومطالبة من بلغ ربتبته بالقيام به مضافة إلى دليل أنه صلى الله عليه وسلم له الاجتهاد، وهذه الرتبة للمفتي أهم الرتب الثلاثة في القيام مقامه والخلافة عنه صلى الله عليه وسلم كما سيقول المؤلف، وبهذا التقرير يتضح كلامه؛ فليست الأمور الثلاثة دليلًا على نوع واحد، بل المستدل عليه أنواع ثلاثة كلها داخلة تحت الخلافة عنه، وأدلتها أيضًا مختلفة بحسبها. "د".
قلت: أسهب ابن القيم في بيان أن المفتي في الأمة قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في "إعلام الموقعين"، ونقل القاسمي في "الفتوى في الإسلام" ص49-54" كلام المصنف هذا، وانظر: "المعتمد" "1/ 338"، و"أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم" "1/ 94"، و"الفتيا ومناهج الإفتاء" "ص119"، وكلاهما للشيخ محمد الأشقر. [2] مضى تخريجه "4/ 76". [3] أخرجه البخاري في "صحيحه" "كتاب التعبير، باب اللبن 12/ 393/ رقم 7006، وباب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافره 12/ 394/ رقم 7007، وباب إذا أعطى فضله غيره في النوم 12/ 417/ رقم 7027، وباب القدح في النوم 12/ 420/ رقم 7032، ومسلم في "صحيحه" "كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه" "4/ 1859-1860/ رقم 2391" عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه.