هَذَا مَانِعًا مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ[1] وَكَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الثَّانِي بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةٍ رُبَّمَا أَدَّى اسْتِدْفَاعُ الْمَفْسَدَةِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُسَاوِي أَوْ تَزِيدُ، فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ وَهُوَ مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِ صَعْبُ الْمَوْرِدِ، إِلَّا أَنَّهُ عَذْبُ الْمَذَاقِ مَحْمُودُ الْغَبِّ[2]، جَارٍ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أُمُورٌ:
أَحَدُهَا[3]: أَنَّ التَّكَالِيفَ -كَمَا تَقَدَّمَ- مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ وَإِمَّا أُخْرَوِيَّةٌ، أَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ، فَرَاجِعَةٌ إِلَى مَآلِ الْمُكَلَّفِ فِي الْآخِرَةِ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ -إِذَا تَأَمَّلْتَهَا- مُقَدِّمَاتٌ لِنَتَائِجِ الْمَصَالِحِ، فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتٍ هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ وَالْمُسَبَّبَاتُ هِيَ مَآلَاتُ الْأَسْبَابِ، فَاعْتِبَارُهَا فِي جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ مَعْنَى النَّظَرِ فِي الْمَآلَاتِ.
لَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَا يَلْزَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعتبار المسببات [1] هذا الأصل من أبين الأدلة على استجابة الشريعة لما يقتضيه تطور الحياة بالناس، بما يلابس أوجه نشاطهم الحيوي فيها من ظروف، الأمر الذي يدعم صدق قضية عموم الشريعة وخلودها، بلا مراء. انظر: "بحوث مقارنة في الفقه الإسلامي وأصوله" "1/ 23". [2] أي: العاقبة، وفيه "غب الصباح يحمد القوم السرى". "ف". [3] هذا يرجع إلى الدليل الثاني من أدلة المسألة الرابعة في الأسباب التي تتفق في المآل مع هذه المسألة، غايته أن الكلام هناك كان في وضع الشارع، وهنا في لزوم اعتبار المجتهد وملاحظته لذلك، وأيضًا هنا زيادة الخصوص الذي قرره بعد، وأشرنا إليه وإلى أنه هو المهم عنده الذي سيفرع عليه قواعد الفصل الآتي، ولم يتوصل للدليل هنا إلا توسيطه الأسباب والمسببات، وجعل المآلات هنا هي المسببات التي تقدمت هناك، وقوله: "هي مقصودة للشارع"، أي: بدليل ما سبق في المسألة الرابعة. "د".