الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
قَدْ يَتَعَلَّقُ الِاجْتِهَادُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَلَا يُفْتَقَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَوْضُوعِ[1] عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ إِلَّا بِهِ[2]، مِنْ حَيْثُ قُصِدَتِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَارِفًا وَمُجْتَهِدًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا لِيَتَنَزَّلَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى، كَالْمُحَدِّثِ الْعَارِفِ بِأَحْوَالِ الْأَسَانِيدِ وَطُرُقِهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَمَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ مُتُونِهَا مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَهَذَا يُعْتَبَرُ اجْتِهَادُهُ فِيمَا هُوَ عَارِفٌ بِهِ، كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَا[3]، وَعَارِفًا بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ أَمْ لَا[4]، وَكَذَلِكَ الْقَارِئُ فِي تَأْدِيَةِ[5] وجوه القرءات، والصانع في معرفة عيوب [1] أي: موضع الحكم على ما هو عليه، ومتى علمه كذلك، علم المناط في الجزئيات؛ لأنه منصوص شرعًا، وإنما النظر في تحقيقه ووجوده في جزئيات قد يخفى تحققه فيها على الوجه المطلوب. "ف". [2] خذ هذا المثال لزيادة الإيضاح: الحكم الشرعي أن من يعتريه المرض أو يتأخر برؤه بسبب استعمال الماء يرخص له في التيمم، فإذا أردنا معرفة الحكم الشرعي بالنسبة لمريض ليرخص له أو لا يرخص؛ فإننا لا نحتاج إلى اللغة العربية، ولا إلى معرفة مقاصد الشرع في باب التيمم فضلًا عن سائر الأبواب، إنما يلزم أن نعرف بالطرق الموصل: هل يحصل ضرر فيتحقق المناط، أم لا فلا يتحقق؟ ولا شأن لهذا بواحد من الأمرين، وإنما يعرف بالتجارب في الشخص نفسه، أو في أمثاله، أو بتقرير طبيب عارف. "د". [3] كيف هذا مع أن الترجيح بالمتن يكون بالمرجحات الراجعة إلى الألفاظ ككون ما دل بالحقيقة يحتج به ولا يحتج بما عارضه الدال بالمجاز، وهكذا؛ فلا بد في هذا النوع من علم العربية، أما الترجيح بالإسناد، فقد يسلم فيه عدم التوقف على شرط العربية. "د". [4] قد لا يسلم في بعض صور الترجيح بالحكم، كما يعلم من مراجعتها في مثل "المنهاج" للبيضاوي. "د". [5] لأنها ترجع للرواية الصرفة، أو إلى ضوابط تعين كيفية النطق بالكلمات مثلًا. "د".