وَكَالْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَثُبُوتُ الْعِلْمِ مَعَ ثُبُوتِ الظَّنِّ أَوِ الشَّكِّ ضِدَّانِ؛ كَالْوُجُوبِ مَعَ النَّدْبِ، أَوِ الْإِبَاحَةِ، أَوِ التَّحْرِيمِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ[1].
وَهَذَا الْأَصْلُ وَاضِحٌ فِي نَفْسِهِ، غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى إِثْبَاتِهِ بِدَلِيلٍ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ التَّأْنِيسِ فِيهِ بِأَمْثِلَةٍ يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى فَهْمِهِ وَتَنْزِيلِهِ وَالتَّمَرُّنِ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ "نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ"[2]، وَرَأَيْنَا الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ بَيْعِ الْأَجِنَّةِ وَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ[3]، وَعَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْجُبَّةِ الَّتِي حَشْوُهَا مُغَيَّبٌ عَنِ الْأَبْصَارِ، وَلَوْ بِيعَ حَشْوُهَا بِانْفِرَادِهِ لَامْتُنِعَ، وَعَلَى جَوَازِ كِرَاءِ الدَّارِ مُشَاهَرَةً مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَعَلَى دُخُولِ الْحَمَّامِ مَعَ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَطُولِ اللُّبْثِ، وَعَلَى شُرْبِ الْمَاءِ مِنَ السِّقَاءِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي مِقْدَارِ الرِّيِّ؛ فَهَذَانِ طَرَفَانِ فِي اعْتِبَارِ الْغَرَرِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ لِكَثْرَتِهِ[4] فِي الْأَوَّلِ وَقِلَّتِهِ مَعَ عدم[5] الانفكاك عنه في [1] كالأمر والنهي، والصحة والفساد، والشرط والمانع، وهكذا من المتقابلات المتضادة، يجري التقابل بينها كما يجري بين المتناقضات في طرفي النفي والإثبات. "د". [2] مضى تخريجه "2/ 522". [3] في حكاية الإجماع نظر؛ فذهب ابن حزم في "المحلى" "8/ 388" إلى جواز بيع الطير في الهواء إذا صحَّ الملك عليه قبل ذلك، وذهب عمر بن عبد العزيز -كما في "الخراج" "87" لأبي يوسف- وابن أبي ليلى -كما في "المبسوط" "13/ 11، 12"- إلى جواز بيع السمك في بِرْكة عظيمة، وإن احتيج في أخذه إلى مؤنة كثيرة.
وانظر في المسألة: "المغني" "4/ 152"، و"العناية شرح الهداية" "5/ 192"، و"البحر الرائق" "6/ 80"، و"المجموع" "9/ 311"، و"كشاف القناع" "3/ 162"، و"الفواكه الدواني" "2/ 137"، و"المعاملات" "259" لأحمد إبراهيم، و"نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية" "1/ 438-447" لأستاذنا ياسين درادكة. [4] أي: مع إمكان الانفكاك عنه. "د". [5] أي: أنه لا يتأتى التحرز عنه؛ فهو ضرورة عمت بها البلوى، مع تفاهة التضرر من أحد المتعاملين في ذلك فيما لو ظهر على خلاف مصلحته، والأول جمع وصفين: الكثرة وإمكان التحرز منه، وما بينهما ما فقد أحد الوصفين؛ فأشبه بذلك كلًّا من الطرفين في وصف فجاء الاختلاف. "د".