فَصْلٌ:
وَكَمَا أَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِ الْمَنْدُوبِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ فِي الْفِعْلِ كَذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةِ اسْتِقْرَارِهِ أَنْ لَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ فِي التَّرْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ؛ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَتِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لَفُهِمَ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرْكِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يُفْهَمْ كَوْنُ الْمَنْدُوبِ مَنْدُوبًا، هَذَا وَجْهٌ[1].
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِخْلَالًا بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ فِيهِ وَمِنَ الْمَنْدُوبَاتِ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِالْكُلِّ؛ فَيُؤَدِّي تَرْكُهُ مطلقًا إلى الإخلال بالواجب، بل لا بد [فيه] مِنَ الْعَمَلِ بِهِ لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ فَيَعْمَلُوا بِهِ، وَهَذَا مَطْلُوبٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، كَمَا كَانَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ؛ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ, صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ! إِنْ قَدَرْتَ أن تصبح و [تمسي] ليس فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ لِي: يَا بُنَيَّ! وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي؛ فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي؛ كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ"[2]؛ فَجَعَلَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ إِحْيَاءً لها؛ فليس بيانها مختصًّا بالقول. [1] انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" "4/ 436 و22/ 407". [2] أخرجه الترمذي في "الجامع" "أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 46/ رقم 2678"، وإسناده ضعيف، فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
قال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال: "وعلي بن زيد صدوق؛ إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره"، قال: "وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد: قال شعبة: حدثنا علي بن زيد وكان رفاعًا، ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله، وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس، ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب". قال: "وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه, ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره".
وما بين المعقوفتين سقط من الأصل وجميع الطبعات، واستدركناه من "جامع الترمذي".