وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ، فَذَلِكَ أَصْلُهُمْ[1]، بِخِلَافِ التَّكْلِيفِ بِمَا يَشُقُّ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْفَاضِلَةِ.
وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْمَطْلُوبِ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَى "الْمَشَقَّةِ"، وَهِيَ فِي
= وحكمته، فالنزاع في هذا الأصل يتنوع إلى النظر إلى المأمور به وإلى النظر إلى جواز الأمر به ووقوعه، ومن جعل القسمين واحدا أو ادعى جواز الأمر به مطلقا لوقوع بعض الأقسام التي يظنها مما لا يطاق وقاس عليها النوع الذي اتفق الناس على أنه لا يطاق، وأن وقوع ذلك النوع يستلزم لوقوع القسم المتفق على أنه لا يطاق أو على جوازه، فقد أخطأ خطأ بيِّنًا، فإن من قاس الصحيح المتمكن من الفعل القادر عليه الذي لو أراده لفعله على العاجز عن الفعل؛ إما لاستحالته في نفسه، أو لعجزه عنه لجامع ما يشتركان فيه من كون الاستطاعة مع الفعل، ومن تعلق علم الرب تعالى بعدم وقوع الفعل منهما، فقد جمع بين ما علم الفرق بينهما عقلا وشرعا وحسنا، وهذا من أفسد القياس وأبطله، والعبد مأمور من جهة الرب تعالى ومنهي، وعند هؤلاء أن أوامره تكليف لما لا يطاق، فهي غير مقدورة للعبد، وهو مجبور على ما فعله من نواهيه، فتركها غير مقدور له، فلا هو قادر على فعل ما أمر به، ولا على ترك ما ارتكبه مما نهي عنه، بل هو مجبور في باب النواهي مكلف ما بلا يطيقه في باب الأوامر، وبإزاء هؤلاء القدرية الذين يقولون: إن فعل العبد لا يتوقف على مشيئة الله ولا هو مقدور له سبحانه وأنه يفعله بدون مشيئة الله لفعله، وبتركه بدون مشيئة الله لتركه، فهو الذي جعل نفسه مؤمنا وكافرا وبرا وفاجرا ومطيعا وعاصيا، والله لم يجعله كذلك، ولا شاء منه أفعاله، ولا خلقها، ولا يوصف بالقدرة عليها، وقول هؤلاء شر من قول أولئك من وجه، وقول أولئك شر من قول هؤلاء من وجه، وكلاهما ناكب عن الحق حائد عن الصراط المستقيم". [1] لأنهم يشترطون في الأمر الإرادة، فلما اشترطوا كون الأمر مريدا لوقوع ما أمر به، استحال عندهم تكليف المستحيل وما لا يطاق؛ لأن الله إذا أمر بإيقاع أمر مستحيل، فلا شك أنه سبحانه عالم بأنه لا يقع، ومن أصلهم: أن الآمر يريد وقوع ما أمر به، والجمع بين العلم بعدم وقوعه وإرادته بأن يقع متنافٍ، وكذلك قولهم: إن القدرة قبل الفعل، وتقدم بيان ذلك في كلام ابن القيم، وهذا مراد المصنف بقوله: "فذلك أصلهم".
انظر "سلاسل الذهب" "137"، و"البحر المحيط" "1/ 219" للزركشي، و"المعتمد" "1/ 150، 177".