وإذا كان الحسد كله شرا كان قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين من قبيل الاستثناء المنقطع. فلا حسد محمود أو جائز مطلقا، لا في مال أو علم، ولا في منصب أو جاه ولا في غير ذلك من أنواع النعم. سواء رجوت النعمة الزائلة لك أو رجوتها لغيرك. ولكن هناك خصلتان محمودتان ليستا من وادي الحسد.
أو نقول: إن الحسد هنا يراد به الغبطة مجازا. فمعنى العبارة لا غبطة إلا في هاتين الخلتين. فحصر الغبطة فيهما مع أنها تكون في غيرهما بيانا لعلو درجتهما وعظيم منزلتهما. وأنهما وحدهما الجديرتان بالغبطة دون غيرهما من صنوف النعم.
فالخلة [1] [حفظ القرآن وفهمه]
الأولى الجديرة بالتمني، الحقيقة بالجدّ في إدراكها، والسعي في نوالها خلة رجل من الله عليه بالقرآن، فوهبه حفظه، وعلم ما تضمنه. من حلال وحرام وحكم وأحكام، وقصص وأخبار، وآداب وأخلاق. فذاق حلاوته وعرف مكانته، فحرص عليه الحرص كله، وعض عليه بالنواجذ واتخذه سميره وجليسه وخليله وأنيسه، فهو يتلوه آناء الليل. وآناء النهار. فلسانه به رطب، وقلبه حي، وعقله في نمو وعلو، ونفسه مهتدية بهديه، ومقتفية لأثره، يفصل به في المشكلات ويحكم في المنازعات، ويقضي على الشبهات، يفتي به المستفتين، ويفض شجار المتنازعين يدعو الناس إليه. ويحثهم على أن يقرئهم آيه، ويعلمهم أحكامه، يعظهم بعظاته: ويهداهم بكلماته. يبشرهم بما فيه من النعيم ويحذرهم عذاب الجحيم، فهو به عليم، ولأمره سميع، ولآيه قارىء، وبأحكامه فاصل، ولما فيه ناشر. فأورثه ذلك الحكمة التي يزن بها الأمور بميزان الحق. ويقول فيها القول الفصل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [2] .
نعم من أوتي القرآن أوتي خيرا كثيرا. أوتي صحة في جسم وطهارة في نفس، وكمالا في عقل، وسعة في مال، وعزة في تواضع. وشدة في رحمة، ورسوخا في علم، وصدقا في قول، وما يذكر بما يسمع إلا ذوو العقول الراجحة، والألباب الناضجة، فأولئك إذا سعد جدهم بجار علّمه الله القرآن، ووفقه لتلاوته ليله ونهاره يتمنون أن يؤتوا مثل ما أوتي من الذكر الحكيم، وأن يوفقوا لتلاوته كما وفق، [1] الخلة: الخصلة. [2] سورة البقرة، الآية: 269.