والاستشكال للقصة من جهتين:
الأولى: أن نذرها من قبيل نذر المعصية وهو لا ينعقد.
والثانية: أنه ما كان ينبغي لأم المؤمنين أن تهجر الهجر المحرم والجواب عن ذلك أن عائشة رأت أن ابن الزبير ارتكب بما قال أمرا عظيما وهو قوله: لأحجرن [1] عليها. فإن فيه انتقاصا لقدرها، ونسبة لها إلى ارتكاب ما لا يجوز من التبذير الموجب لمنعها من التصرف فيما رزقها الله تعالى، مع ما انضاف إلى ذلك من كونها أم المؤمنين، وخالته أخت أمه، ولم يكن أحد عندها في منزلته. فكأنها رأت أن في ذلك الذي وقع منه نوع عقوق، والشخص يستعظم ممن يلوذ به ما لا يستعظمه من الغريب، فرأت أن مجازاته على ذلك بترك مكالمته، كما نهي صلى الله عليه وسلم عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه، عقوبة لهم لتخلفهم عن غزوة تبوك بغير عذر، ولم يمنع من كلام من تخلف عنها من المنافقين مؤاخذة للثلاثة لعظيم منزلتهم وازدراء [2] بالمنافقين لحقارتهم. فعلى هذا يحمل ما صدر من عائشة، وأنها رأت الهجر من النوع المأذون فيه، فنذرته، وكفّرت عنه لما لم تف به بمكالمتها ابن الزبير.
وانظر هذا الأدب العالي من الصحابة مع أم المؤمنين وكيف كان حرصهم على مرضاتها، وانظر حرصها على الوفاء بنذرها، وكيف بكت لما فاتها وكيف سخت نفسها بأربعين رقبة حررتها كفارة عن نذرها، ثم ما برحت تبكي بعد ذلك بكاء شديدا على نذرها؛ أن لم تف به! هكذا يكون الحرص على شرائع الدّين واحترام أمهات المؤمنين.
59- باب: الصدق والكذب وأثرهما
عن عبد الله بن مسعود عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالصّدق، فإنّ الصّدق يهدي إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدي إلى الجنّة، وما يزال الرّجل يصدق، ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا، وإيّاكم والكذب، فإنّ الكذب [1] لأحجرن: حجّر الشيء ضيقه. [2] ازدراء: ازدراه: حقّره وعابه.