المرحلة الثالثة من البحث:
البحث في ظروف الوحي وملابساته الخاصة عن مصدر القرآن:
الآن: وقد جاوزنا بك هاتين المرحلتين من البحث، وأريناك أنه لا يوجد للقرآن مصدر إنساني، لا في نفس صاحبه ولا عند أحد من البشر، وأن كل من حاول أن يجعل هذا القرآن "عملًا إنسانيًّا" أعياه أمره، وأقام الحجة على فشله باضطرابه ولجاجته، وإحالته ومكابرته -فقد وجب علينا أن ننتقل إلى المرحلة الثالثة لنبحث عن ذلك المصدر في أفق خارج من هذا الأفق الإنساني جملة؛ وألا نقف بالقرآن حيث وقف به الملحدون قديمًا وحديثًا مذبذبين فيهن بين هذين الطرفين يأخذون بأحدهما تارة، وبالثاني تارة، وبهما مجتمعين تارة أخرى، متنقلين هكذا من فاسد إلى فاسد، إلى مركب منهما أشد فسادًا من كليهما. كلا، فإن العقل يقضي علينا أن نبطل ما أبطله البرهان غير مكابرين، وأن نتابعه في سيره حتى نصل إلى الحق المبين.
أما هؤلاء الملحدون فإنهم ما قعد بهم عن متابعة البحث -زعموا- إلا رعايتهم لحرمة السنن الكونية، ومحافظتهم على الأسباب العادية التي يصدر عنها كلام الناس في معقولهم ومنقولهم؛ فقد أبى عليهم وفاؤهم لهذه العلوم الطبيعية أن يقتحموا حدودها ويخرجوا إلى التماس شيء لا تناله أعينهم، ولم يجربوا مثاله في أنفسهم، وأنت قد عرفت أن هذا الذي ظنوه وفاءً بطبيعة الأشياء قد انقلب بهم إلى ضده؛ إذ خرقوا في سبيله السياج الطبيعي للعقل الإنساني وللواقع التاريخي، فجمعوا المتناقضات وغيروا معالم التاريخ، وأرهقوا طبائع الأشياء فحملوها ما لا تطيق. فأي عاقل يرضى أن يقف موقفًا كهذا ينصر فيه عادته بإهدار عقله!!
بل الحق أن هناك مانعًا آخر يعقوه عن متابعة السير معنا، ولكنهم يكتمونه عنا: كبر في صدورهم أن يعطوا مقادتهم لإنسان جاءهم من فوق رءوسهم يزعم أنه رسول الله إليهم، فيأمرهم وينهاهم ويستوجب الطاعة عليهم، ثم هو على ذلك يواجههم بالحقائق المرة، فيحول بينهم وبين ماض هم به مستمسكون، وهوى هم له عابدون {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [1].
فلنذرهم قاعدين حيث رضوا لأنفسهم القعود. ولنتابع البحث عن هذا الحق [1] سورة المؤمنون: الآية 70.