وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضوعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعًا، أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى، فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلًا بعد جيل على هيئته التي وضع عليها أول مرة. ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر.
وبهذ العناية المزدوجة التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية اقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظًا في حرز حريز، إنجازًا لوعد الله الذي تكفل بحفظه حيث يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] ولم يصبه ما أصاب الكتب الماضية من التحريف والتبديل وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [2] أي بما طلب إليهم حفظه.
سر اختصاص القرآن بالخلود وعدم التحريف، دون الكتب السابقة:
والسر في هذه التفرقة أن سائر الكتب السماوية جيء بها على التوقيت لا التأبيد،
=ملاحظًا فيه وصف الجمع، إما على معنى اسم الفاعل أو اسم المفعول، فيكون معناه "الجامع" أو "المجموع"، وهذا اللقب لا يعني فقط أن هذا المسمى جامع للسور والآيات، أو أنه مجموع تلك السور والآيات، من حيث هي نصوص مؤلفة على صفحات القلوب، أو من حيث هي نقوش مصفوفة في الصحف والألواح، أو من حيث هي أصوات مرتلة منظومة على الألسنة، بل يعني شيئًا أدق من ذلك كله، وهو أن هذا الكلام قد جمع فنون المعاني والحقائق، وأنه قد حشدت فيه كتائب الحكم والأحكام، فإذا قلت: الكتاب أو القرآن، كنت كأنما قلت "الكلام الجامع للعلوم" أو "العلوم المجموعة في كتاب". وهكذا وصفه الله تعالى إذ أخبر بأنه نزله {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [سورة النحل: 89] وكذلك وصفه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث قال: "فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم" رواه الدارمي عن علي، ك/ فضائل القرآن، ب/ فضل من قرأ القرآن "3197". [1] سورة الحجر: الآية 9. [2] سورة المائدة: الآية 44.