الحكم في تحديد موقع كل جزء منها؟ هاتان مرحلتان تتنزل الثانية منهما منزلة الصورة من مادتها. فلا جرم أن عكس القضية فيهما لا يكون إلا سيرًا بالعقل البشري في غير سبيله، وإدلاجًا به في مزلة لا قرار للإقدام عليها، ولا هدى للسالك فيها. وهل رأيت أحدًا سلك هذه السبيل المؤتفكة، ثم استقام له الأمر عليها إلى نهايته1؟
بل انظر إلى الإنسان حين يأخذ في ترتيب أجزاء المركب بعد جمعها. ألا تراه خاضعًا لسنة السير الطبيعي التي يخضع لها كل سائر إلى غرض ما؛ حسي أو عقلي؟ فهو إن قطع سبيله خطوات لم يستطع أن يجتاز أخراها قبل أولاها، وإن صعد فيه درجات لم يستطع أن يؤخر أسفلها عن أعلاها.
تلك حدود رسمتها قوانين الفطرة العامة، فلا يستطيع أحد أن يتخطاها. سواء في صناعاته المادية أو المعنوية. فالبنَّاء والحائك والكاتب والشاعر في هذه الحدود سواء.
ونضرب لك مثلا:
قدر في نفسك أن رجلًا نزل واديًا فسيحًا ليس عليه بنيان قائم، وليس به شيء من مواد البناء وأنقاضه، فما لبث أن أحس برجفة أرضية أو عاصفة سماوية، وإذا قمة الجبل تنصدع قليلًا فتلقي بجانبه صخرًا أو بضعه صخور.. ثم تمضي فترة طويلة أو
1 نقول: هل رأيت عاقلًا تعجل بالقضاء في تحديد الموقع لجزء من صنعته قبل أن يحيط بسائر أجزائها علمًا؟ وهل تراه لو فعل يكون قضاؤه في هذا الترتيب قضاءً مبرمًا؟ ثم هل تراه لو أصر على هذا الترتيب يتم له ما يشتهي لصنعته من نظام محكم؟، كلا، إن العاقل لو قام بهذه التجربة في بعض الأجزاء نزولًا على البديهة الحاضرة فإنما يتخذها تعلة وقتية، ريثما يبدو له عنصر آخر أحق بهذه الرتبة أو تلك؛ ثم لا يلبث أن يعود إلى الأول ليقصيه عن مكانه قليلًا أو كثيرًا، أو ليفصله عن هذه المجموعة إلى مجموعة أخرى، أو ليجعله كلًّا قائمًا برأسه.. وهكذا لا يزال يقلب وجوه الرأي في نظام تلك المواد، حتى إذا ما فرغ منها جمعًا وتحصيلًا، وانكشفت له جملة وتفصيلًا، فهنالك فقط يستطيع أن يقر كل جزء في مستقره الأخير، وأن يعطي المركب صيغته النهائية. وكل ترتيب تأخذه الآحاد قبل ذلك فإنه لا يجمعها إلا تلفيقًا، ولا يعطيها إلا صورة شوهاء، وكذلك كل نظام أقيم على غير أساس العلم المفصل بأجزاء المنظوم فأحرى به أن يكون مثالًا للضعف والاختلال. وإن بقي اليوم قائمًا لم يلبث أن ينهار غدًا.