لا تفعل" لا زائد على ذلك. وإما أن يذهب فيه إلى شيء من التفصيل، ولكنه إذ يأخذه الحذر من الإكثار والإسراف يبذل جهده في ضم أطرافه وحذف ما استطاع من أدوات التمهيد والتشويق، ووسائل التقريب والتثبيت، وما إلى ذلك مما تمس إليه حاجة النفس في البيان، حتى يخرجه ثوبًا متقلصًا يقصر عن غايته، أو هيكلًا من العظم لا يكسوه لحم ولا عصب، ورب حرف واحد ينقص من الكلام يذهب بمائه ورونقه، ويكشف شمس فصاحته، ورب اختصار يطوي الكلام طيًّا يزهق روحه ويعمي طريقه؛ ويرد إيجازه عِيًّا وإلغازًا.
والذي يعمد إلى الوفاء بحق المعنى وتحليله إلى عناصره؛ وإبراز كل دقائقه "بقدر ما يحيط به علمه وما يؤديه إليه إلهامه" لا يجد له بدًّا من أن يمد في نفسه مدًّا؛ لأنه لا يجد في القليل من اللفظ ما يشفي صدره، ويؤدي عن نفسه رسالتها كاملة. فإذا أعطى نفسه حظها من ذلك لا يلبث أن يباعد ما بين أطراف كلامه، ويبطئ بك في الوصول إلى غايته، فتحس بقوة نشاطك وباعته إقبالك آخذتين في التضاؤل والاضمحلال.
عامة من نعرفهم من الفصحاء -قدامى ومحدثين- يؤتون من هذا الجانب غالبًا، أعني جانب الإملال والإسراف، لا جانب الإخلال والإجحاف. وأكثرهم تجمع بهم شهوة البيان إلى أبعد من هذا الحد، فمنهم من يذهب إلى التكليف والتفصح باستعمال الغريب من المفردات والتراكيب، فيكلفك أن تبدي وتعيد وتقبل وتدبر حتى تهتدي إلى وجه مراده، وهكذا لا يزداد كلامه بالبسط إلا ضيقًا عن الفهم. ومنهم من يُلقي حول المعنى ركامًا من الحشو والفضول ينوء بحمله، أو يلبسه ثوبًا فضفاضًا من المترادف والمتقارب يتعثر في أذياله. يحسب أنه يوفي لك المعنى ويحدده، وفي الحق إنما ينشره ويبدده. ولعل أمثل هؤلاء طريقة من لو حذفت شطر كلامه لأغناك عنه ثاني شطريه.
ذلك على أن البلغاء مهما أوجفوا من ركابهم، ومهما أجلبوا بخيلهم ورجلهم لا