القالب العذب الجميل. ومن أجل ذلك سيبقى صوت القرآن أبدًا في أفواه الناس وآذانهم ما دامت فيهم حاسة تذوق وحاسة تسمع، وإن لم يكن لأكثرهم قلوب يفقهون بها حقيقة سره، وينفذون بها إلى بعيد غوره {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1].
هل عرفت أن نظم القرآن الكريم يجمع إلى الجمال عزة وغرابة؟ وهل عرفت أن هذا الجمال كان قوة إلهية حفظ بها القرآن من الفقد والضياع؟
فاعرف الآن أن هذه الغرابة كانت قوة أخرى قامت بها حجة القرآن في التحدي والإعجاز، واعتصم بها من أيدي المعارضين والمبدلين، وأن ذلك الجمال ما كان ليكفي وحده في كف أيديهم عنه، بل كان أجدر أن يغريهم به. ذلك أن الناس -كما يقول الباقلاني[2]: إذا استحسنوا شيئًا اتبعوه، وتنافسوا في محاكاته بباعث الجبلة. وكذلك رأينا أصحاب هذه الصناعة يتبع بعضهم بعضًا فيما يستجيدونه من الأساليب، وربما أدرك اللاحق فيهم شأو السابق أو أربى عليه، كما صنع ابن العميد بأسلوب الجاحظ، وكما يصنع الكتاب والخطباء اليوم في اقتداء بعضهم ببعض. وما أساليب الناس على اختلاف طرائقها في النثر والشعر إلا مناهل مورودة، ومسالك معبدة، تؤخذ بالتعلم، وتراض الألسنة والأقلام عليها بالمرانة، كسائر الصناعات.
فما الذي منع الناس أن يخضعوا أسلوب القرآن لألسنتهم وأقلامهم وهو شرع في استحسان طريقته، وأكثرهم الطالبون لإبطال حجته؟
ما ذاك إلا أن فيه منعة طبيعية كفت ولا تزال تكف أيديهم عنه، ولا ريب أن أول ما تلاقيك هذه المناعة فيما صورناه لك من غريب تأليفه في نيته، وما اتخذه في رصف [1] سورة الحجر: الآية 9. [2] في كتابه "إعجاز القرآن".