بان تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته، ويأخذ كلٌ بيد الآخر ويظاهره، ويمد كلٌ بقَدَرِه الغرضَ الكليِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرض المشترك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة، فيتولد من هذه المجاوبة المعاونةَ، ومنها الانتظام، ومنه التناسب، ومنه الحسن والجمال الذاتي. وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لا سيما في (الم _ ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين) كما سمعتَه مع التنظير بقوله: (ولئن مسَّتهم نفحةٌ من عذاب ربك) (1) .
المسألة الخامسة:
اعلم! ان غناء الكلام وثروته ووسعته هو انه كما أن أصل الكلام يفيد أصل المقصد؛ كذلك كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشير وترمز وتلوحالى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام. وان شئت مثالا تأمل في (واذا قيل لهم لاتفسدوا في الارض) الى آخره. و (واذا لقوا الذين آمنوا) الى آخره، على الوجه المفسَّر سابقا.
المسألة السادسة:
اعلم! ان المعاني المجتناة من خريطة الكلام المأخوذة المنقوشة "بفُوطُغْراف" التلفظ على أنواع مختلفة ومراتب متفاوتة. فبعضها كالهواء يُحسّ به ولايُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤْخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولاينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولايتعين.. وبعضها كالدّرّ المنتظم والذهب المضروب يتشخص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلب الهوائي. وقد تعتور على المعنى الواحد الحالات الثلاث. ألا ترى انه اذا أثر أمر خارجي في وجدانك يتهيج قلبُك؟ فيثير الحسيات فيتطاير معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصل بعضها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسم، ثم ينعقد من ذلك القسم بعض. ففي كل من هذه الطبقات يتوضع وينعقد البعض، ويبقى البعض الآخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل الحروف، والتبن عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ ان يفيد بصريح الكلام ما تعلق به الغرضُ واقتضاه المقام، وطلبه المخاطب. ثم يحيل الطبقات الأُخر - بمقدار نسبة درجة القرب من الغرض - على دلالة القيود، واشارة الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستتبعات
(1) سورة الانبياء: 46.