ثم ان مما يحوِّج الى التمثيل عمق المعنى ودقته ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرّق المقصد وانتشاره ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن الكريم؛ اذ هي عند أهل التحقيق نوع من التمثيلات العالية وأساليب لحقائق محضة ومعقولات صرفة؛ ولأن العوام لايتلقون الحقائق في الأغلب الاّ بصورة متخيلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة الاّ بأساليب تمثيلية لم يكن بدّ من المتشابهات كـ (اِسْتوى عَلَى الْعَرْشِ) (1) لتأنيس اذهانهم ومراعاة أفهامهم.
ثم اني استخرجت - فيما مضى من الزمان - من اسّ اَساس البلاغة مقدِّمة لبيان اعجاز القرآن الكريم ثنتي عشرة مسألة. كل منها خيط لحقائق (2) . ولما ذكرت هذه الآيات التمثيلية هنا - دفعةً - ناسب تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:
المسألة الأولى:
ان منشأ نقوش البلاغة انما هو نظم المعاني دون نظم اللفظ كما جرى عليه اللفظيون المتصلفون، وصار حب اللفظ فيهم مرضاً مزمناً الى ان رد عليهم عبد القاهر الجرجاني (3) في دلائل الاعجاز واسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثر من مائة صحيفة.
ونظمُ المعاني: عبارة عن توخي المعاني النحوية فيما بين الكلمات. اي اذابة المعاني الحرفية بين الكلم لتحصيل النقوش الغريبة. وان أمعنت النظر لرأيت ان المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات انما هو نظم المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيّد بقوانين المنطق.. وأسلوب المنطق هو الذي يتسلسل به الفكر الى الحقائق.. والفكر الواصل الى الحقائق هو الذي ينفذ في دقائق الماهيات ونسبها.. ونسب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَف للحُسن المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجرد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائف ومزايا.. وتلك الجنة المزهرة هي التي يجول ويتنزّه فيها البلابل المسمّاة بالبلغاء وعشاق الفطرة.. واولئك البلابل نغماتهم الحلوة اللطيفة انما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.
(1) سورة الاعراف: 54.
(2) المقصود المقالة الثانية من كتاب (محاكمات "عقلية") - الصيقل الاسلامي.
(3) (ت 471هـ / 1078م) اِمام في اللغة والبلاغة، له مصنفات منها: كتاب المغني (30 مجلد) المقتصد (3 مجلدات) اعجاز القرآن، المفتاح، دلائل الاعجاز، اسرار البلاغة.