نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3230
ويجوز أن يكون الحديث هنا عن أهل الكتاب، الذين انحرفوا عن كتابهم، واجترحوا السيئات، وظلوا يحسبون أنفسهم في صفوف المؤمنين، ويجعلون أنفسهم أكفاء للمسلمين الذين يعملون الصالحات، أندادا لهم في تقدير الله سواء في الحياة أو بعد الممات. أي عند الحساب والجزاء.. كما يجوز أن يكون حديثا عاما بقصد بيان قيم العباد في ميزان الله. ورجحان كفة المؤمنين أصحاب العمل الصالح واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات، سواء في الحياة أو في الممات. ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الأصيلة في بناء الوجود كله. قاعدة الحق. الذي يتمثل في بناء الكون، كما يتمثل في شريعة الله. والذي يقوم به الكون كما تقوم به حياة الناس. والذي يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين في جميع الأحوال وفي مجازاة كل نفس بما كسبت من هدى أو ضلال وفي تحقيق العدل للناس أجمعين: «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ومعنى أصالة الحق في بناء الكون، وارتباطه بشريعة الله للبشر، وحكمه عليهم يوم الحساب والجزاء، معنى يتكرر في القرآن الكريم، لأنه أصل من أصول هذه العقيدة، تجتمع عليه مسائلها المتفرقة، وترجع إليه في الأنفس والآفاق، وفي ناموس الكون وشريعة البشر. وهو أساس «فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان» [1] وإلى جوار هذا الأصل الثابت يشير إلى الهوى المتقلب. الهوى الذي يجعل منه بعضهم إلها يتعبده. فيضل ضلالا لا اهتداء بعده، والعياذ بالله:
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ، وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ، وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً؟ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟» ..
والتعبير القرآني المبدع يرسم نموذجا عجيبا للنفس البشرية حين تترك الأصل الثابت، وتتبع الهوى المتقلب وحين تتعبد هواها، وتخضع له، وتجعله مصدر تصوراتها وأحكامها ومشاعرها وتحركاتها. وتقيمه إلها قاهرا لها، مستوليا عليها، تتلقى إشاراته المتقلبة بالطاعة والتسليم والقبول. يرسم هذه الصورة ويعجّب منها في استنكار شديد:
«أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ؟» ..
أفرأيته؟ إنه كائن عجيب يستحق الفرجة والتعجيب! وهو يستحق من الله أن يضله، فلا يتداركه برحمة الهدى. فما أبقى في قلبه مكانا للهدى وهو يتعبد هواه المريض! «وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ» ..
على علم من الله باستحقاقه للضلالة. أو على علم منه بالحق، لا يقوم لهواه ولا يصده عن اتخاذه إلها يطاع.
وهذا يقتضي إضلال الله له والإملاء له في عماه:
«وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» ..
فانطمست فيه تلك المنافذ التي يدخل منها النور وتلك المدارك التي يتسرب منها الهدى. وتعطلت فيه أدوات الإدراك بطاعة للهوى طاعته العبادة والتسليم.
«فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ؟» .. [1] بحث يرجو المؤلف أن يقدمه إن شاء الله.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3230