نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3186
ويعلنون كفرهم به على سبيل التوكيد، يقولون: «وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ» ليلقوا في روع الجماهير أنهم واثقون مما يقولون فيتبعوهم عن طريق الإيحاء والانقياد. شأن الملأ من كل قوم، في التغرير بالجماهير، خيفة أن يفلتوا من نفوذهم، ويهتدوا إلى كلمة التوحيد التي يسقط معها كل كبير، ولا يعبد ويتقى إلا الله العلي الكبير! ثم يحكي القرآن تخليطهم في القيم والموازين وهم يعترضون على اختيار الله لمحمد- صلّى الله عليه وسلّم- ليحمل إليهم الحق والنور:
«وَقالُوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ! ..
يقصدون بالقريتين مكة والطائف. ولقد كان رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- من ذؤابة قريش، ثم من ذؤابة بني هاشم. وهم في العلية من العرب. كما كان شخصه- صلّى الله عليه وسلّم- معروفا بسمو الخلق في بيئته قبل بعثته. ولكنه لم يكن زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، في بيئة تعتز بمثل هذه القيم القبلية. وهذا ما قصد إليه المعترضون بقولهم: «لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ! والله أعلم حيث يجعل رسالته. ولقد اختار لها من يعلم أنه لها أهل. ولعله- سبحانه- لم يشأ أن يجعل لهذه الرسالة سندا من خارج طبيعتها، ولا قوة من خارج حقيقتها فاختار رجلا ميزته الكبرى.. الخلق.. وهو من طبيعة هذه الدعوة.. وسمته البارزة.. التجرد.. وهو من حقيقة هذه الدعوة.. ولم يختره زعيم قبيلة، ولا رئيس عشيرة، ولا صاحب جاه، ولا صاحب ثراء. كي لا تلتبس قيمة واحدة من قيم هذه الأرض بهذه الدعوة النازلة من السماء. ولكي لا تزدان هذه الدعوة بحلية من حلى هذه الأرض ليست من حقيقتها في شيء. ولكي لا يكون هناك مؤثر مصاحب لها خارج عن ذاتها المجردة. ولكي لا يدخلها طامع ولا يتنزه عنها متعفف.
ولكن القوم الذين غلب عليهم المتاع، والذين لم يدركوا طبيعة دعوة السماء، راحوا يعترضون ذلك الاعتراض.
«لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» ! فرد عليهم القرآن مستنكرا هذا الاعتراض على رحمة الله، التي يختار لها من عباده من يشاء وعلى خلطهم بين قيم الأرض وقيم السماء مبينا لهم عن حقيقة القيم التي يعتزون بها، ووزنها الصحيح في ميزان الله:
«أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا، وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» ..
أهم يقسمون رحمة ربك؟ يا عجبا! وما لهم هم ورحمة ربك؟ وهم لا يملكون لأنفسهم شيئا، ولا يحققون لأنفسهم رزقا حتى رزق هذه الأرض الزهيد نحن أعطيناهم إياه وقسمناه بينهم وفق حكمتنا وتقديرنا لعمران هذه الأرض ونمو هذه الحياة.
«نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا» ..
ورزق المعاش في الحياة الدنيا يتبع مواهب الأفراد، وظروف الحياة، وعلاقات المجتمع. وتختلف نسب التوزيع بين الأفراد والجماعات وفق تلك العوامل كلها. تختلف من بيئة لبيئة، ومن عصر لعصر، ومن مجتمع لمجتمع، وفق نظمه وارتباطاته وظروفه العامة كلها. ولكن السمة الباقية فيه، والتي لم تتخلف أبدا- حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة للإنتاج وللتوزيع- أنه متفاوت بين الأفراد.
وتختلف أسباب التفاوت ما تختلف بين أنواع المجتمعات وألوان النظم. ولكن سمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبدا. ولم يقع يوما- حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة- أن تساوى جميع
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3186