نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3036
«تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ» ..
العزيز القادر على تنزيله.
الحكيم الذي يعلم فيم أنزله ولماذا أنزله ويفعل ذلك بحكمة وتقدير وتدبير.
ولا يتلبث السياق عند هذه الحقيقة طويلا فهي مقدمة للقضية الأصيلة التي تكاد السورة تكون وقفا عليها والتي نزل الكتاب لتقريرها وتوكيدها. قضية توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وإخلاص الدين له، وتنزيهه عن الشرك في كل صورة من صوره والاتجاه إليه مباشرة بلا وسيط ولا شفيع:
«إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ» .
وأساس الحق الذي أنزل به الكتاب، هو الوحدانية المطلقة التي يقوم عليها الوجود. وفي الآية الخامسة من السورة يجيء: «خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» . فهو الحق الواحد الذي قامت به السماوات والأرض، وأنزل به هذا الكتاب. الحق الواحد الذي تشهد به وحدة النظام الذي يصرف السماوات والأرض والذي ينطق به هذا الكتاب. الحق الذي يتسم به كل ما خرج من يد الصانع المبدع في هذا الوجود..
«فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ» .
والخطاب لرسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- الذي أنزل إليه الكتاب بالحق. وهو منهجه الذي يدعو إليه الناس كافة.. عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له، وقيام الحياة كلها على أساس هذا التوحيد.
وتوحيد الله وإخلاص الدين له، ليس كلمة تقال باللسان إنما هو منهاج حياة كامل. يبدأ من تصور واعتقاد في الضمير وينتهي إلى نظام يشمل حياة الفرد والجماعة.
والقلب الذي يوحد الله، يدين لله وحده، ولا يحني هامته لأحد سواه، ولا يطلب شيئا من غيره ولا يعتمد على أحد من خلقه. فالله وحده هو القوي عنده، وهو القاهر فوق عباده. والعباد كلهم ضعاف مهازيل، لا يملكون له نفعا ولا ضرا فلا حاجة به إلى أن يحني هامته لواحد منهم. وهم مثله لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا. والله وحده هو المانح المانع، فلا حاجة به إلى أن يتوجه لأحد غيره وهو الغني والخلق كلهم فقراء.
والقلب الذي يوحد الله، يؤمن بوحدة الناموس الإلهي الذي يصرف الوجود كله ويؤمن إذن بأن النظام الذي اختاره الله للبشر هو طرف من ذلك الناموس الواحد، لا تصلح حياة البشر ولا تستقيم مع الكون الذي يعيشون فيه إلا باتباعه. ومن ثم لا يختار غير ما اختاره الله من النظم، ولا يتبع إلا شريعة الله المتسقة مع نظام الوجود كله ونظام الحياة.
والقلب الذي يوحد الله يدرك القرابة بينه وبين كل ما أبدعت يد الله في هذا الكون من أشياء وأحياء ويحيا في كون صديق يعاطفه ويتجاوب معه ويحس يد الله في كل ما حوله، فيعيش في أنس بالله وبدائعه التي تلمسها يداه وتقع عليها عيناه. ويشعر كذلك بالتحرج من إيذاء أحد، أو إتلاف شيء أو التصرف في أحد أو في شيء إلا بما أمره الله. خالق كل شيء، ومحيي كل حي. ربه ورب كل شيء وكل حي..
وكذلك تبدو آثار التوحيد في التصورات والمشاعر، كما تبدو في السلوك والتصرفات. وترسم للحياة كلها منهاجا كاملا واضحا متميزا. ولا يعود التوحيد كلمة تقال باللسان. ومن ثم تلك العناية بتقرير عقيدة التوحيد وتوضيحها وتكرار الحديث عنها في الكتاب الذي أنزله الله: وهو حديث يحتاج إلى تدبره كل أحد، في كل عصر، وفي كل بيئة. فالتوحيد بمعناه ذلك معنى ضخم شامل يحتاج إلى فهم وإدراك.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 3036