نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2969
الأولى يبدو وكأن فيه نضارة وفتوة. وفي الأخيرة يطلع وكأنما يغشاه سهوم ووجوم، ويكسوه شحوب وذبول.
ذبول العرجون القديم! فليست مصادفة أن يعبر القرآن الكريم عنه هذا التعبير الموحي العجيب! والحياة مع القمر ليلة بعد ليلة تثير في الحس مشاعر وخواطر ندية ثرية موحية عميقة. والقلب البشري الذي يعيش مع القمر دورة كاملة، لا ينجو من تأثرات واستجابات، ومن سبحات مع اليد المبدعة للجمال والجلال المدبرة للأجرام بذلك النظام. سواء كان يعلم سر هذه المنازل والأشكال القمرية المختلفة أو لا يعلم.
فالمشاهدة وحدها كفيلة بتحريك القلب، واستجاشة الشعور، وإثارة التدبر والتفكير.
وأخيرا يقرر دقة النظام الكوني الذي يحكم هذه الأجرام الهائلة، ويرتب الظواهر الناشئة عن نظامها الموحد الدقيق:
«لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ..
ولكل نجم أو كوكب فلك، أو مدار، لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه. والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة. فالمسافة بين أرضنا هذه وبين الشمس تقدر بنحو ثلاثة وتسعين مليونا من الأميال. والقمر يبعد عن الأرض بنحو أربعين ومائتي ألف من الأميال. وهذه المسافات على بعدها ليست شيئا يذكر حين تقاس إلى بعد ما بين مجموعتنا الشمسية وأقرب نجم من نجوم السماء الأخرى إلينا. وهو يقدر بنحو أربع سنوات ضوئية.
وسرعة الضوء تقدر بستة وثمانين ومائة ألف من الأميال في الثانية الواحدة! (أي إن أقرب نجم إلينا يبعد عنا بنحو مائة وأربعة مليون مليون ميل!) .
وقد قدر الله خالق هذا الكون الهائل أن تقوم هذه المسافات الهائلة بين مدارات النجوم والكواكب. ووضع تصميم الكون على هذا النحو ليحفظه بمعرفته من التصادم والتصدع- حتى يأتي الأجل المعلوم- فالشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر. والليل لا يسبق النهار، ولا يزحمه في طريقه، لأن الدورة التي تجيء بالليل والنهار لا تختل أبدا فلا يسبق أحدهما الآخر أو يزحمه في الجريان! «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ..
وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح. فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطا سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.
وإن الإنسان ليتضاءل ويتضاءل، وهو ينظر إلى هذه الملايين التي لا تحصى من النجوم الدوارة، والكواكب السيارة. متناثرة في ذلك الفضاء، سابحة في ذلك الخضم، والفضاء من حولها فسيح فسيح وأحجامها الضخمة تائهة في ذلك الفضاء الفسيح!!! «وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ، إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ» ..
إن في السياق مناسبة لطيفة بين النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها، والفلك المشحون السابح في الماء يحمل ذرية بني آدم! مناسبة في الشكل، ومناسبة في الحركة، ومناسبة في تسخير هذا وذلك بأمر الله، وحفظه بقدرته في السماوات والأرض سواء.
وهذه آية كتلك يراها العباد ولا يتدبرونها. بل هذه أقرب إليهم وأيسر تدبرا لو فتحوا قلوبهم للآيات.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2969