نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2932
هذا والنقلة من غير الحي إلى الحي نقلة بعيدة بعيدة أكبر وأضخم من كل أبعاد الزمان والمكان. وتأمل هذه النقلة لا ينتهي ولا يمله القلب الحي الذي يتدبر أسرار هذا الوجود العجيبة. وكل سر منها أضخم من الآخر وأعجب صنعا.
والنقلة بعد ذلك من النطفة التي تمثل مرحلة الخلية الواحدة إلى الخلقة الكاملة السوية للجنين، حين يتميز الذكر من الأنثى، وتتحقق الصورة التي يشير إليها القرآن في هذه الآية: «ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً» .. سواء كان المقصود جعلكم ذكرا وأنثى وأنتم أجنة، أو كان المقصود جعلكم أزواجا بعد ولادتكم وتزاوج الذكر والأنثى..
هذه النقلة من النطفة إلى هذين النوعين المتميزين نقلة بعيدة كذلك بعيدة! فأين الخلية الواحدة في النطفة من ذلك الكائن الشديد التركيب والتعقيد، الكثير الأجهزة المتعدد الوظائف؟ وأين تلك الخلية المبهمة من ذلك الخلق الحافل بالخصائص المتميزة؟
إن تتبع هذه الخلية الساذجة وهي تنقسم وتتوالد وتتركب كل مجموعة خاصة من الخلايا المتولدة منها لتكوين عضو خاص له وظيفة معينة وطبيعة معينة. ثم تعاون هذه الأعضاء وتناسقها وتجمعها لتكون مخلوقا واحدا على هذا النحو العجيب ومخلوقا متميزا من سائر المخلوقات الأخرى من جنسه، بل من أقرب الناس إليه، بحيث لا يتماثل أبدا مخلوقان اثنان.. وكلهم من نطفة لا تميز فيها يمكن إدراكه! .. ثم تتبع هذه الخلايا حتى تصير أزواجا، قادرة على إعادة النشأة بنطف جديدة، تسير في ذات المراحل، دون انحراف.. إن هذا كله لعجب لا ينقضي منه العجب. ومن ثم هذه الإشارة التي تتردد في القرآن كثيرا عن تلك الخارقة المجهولة السر بل تلك الخوارق المجهولة الأسرار! لعل الناس يشغلون قلوبهم يتدبرها، ولعل أرواحهم تستيقظ على الإيقاع المتكرر عليها! وإلى جوار هذه الإشارة هنا يعرض صورة كونية لعلم الله (كالصور التي جاء ذكرها في هذا الجزء في سورة سبأ) صورة علم الله المحيط بكل حمل تحمله أنثى في هذه الأرض جميعا:
«وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ» .
والنص يتجاوز إناث الإنسان إلى إناث الحيوان والطير والأسماك والزواحف والحشرات. وسواها مما نعلمه ومما لا نعلمه وكلها تحمل وتضع حتى ما يبيض منها، فالبيضة حمل من نوع خاص. جنين لا يتم نموه في داخل جسم الأم بل ينزل بيضة، ثم يتابع نموه خارج جسم الأم بحضانتها هي أو بحضانة صناعية حتى يصبح جنينا كاملا ثم يفقس ويتابع نموه العادي.
وعلم الله على كل حمل وعلى كل وضع في هذا الكون المترامي الأطراف!!! وتصوير علم الله المطلق على هذا النحو العجيب ليس من طبيعة الذهن البشري أن يتجه إليه لا في التصور ولا في التعبير- كما قلنا في سورة سبأ- فهو بذاته دليل على أن الله هو منزل هذا القرآن. وهذه إحدى السمات الدالة على مصدره الإلهي المتفرد.
ومثلها الحديث عن العمر في الآية ذاتها:
«وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» ..
فإن الخيال إذا مضى يتدبر ويتتبع جميع الأحياء في هذا الكون من شجر وطير وحيوان وإنسان وسواه على اختلاف في الأحجام والأشكال والأنواع والأجناس والمواطن والأزمنة ثم يتصور أن كل فرد من أفراد
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2932