نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2804
«خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» .. وهي صورة موحية شفيفة ترف حولها القلوب. يعرض إلى جوارها ما أعده الله لهذه النفوس الخاشعة الخائفة الطامعة من نعيم يعلو على تصور البشر الفانين: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» .. ويعقب عليه بمشهد سريع لمصائر المؤمنين والفاسقين في جنة المأوى وفي نار الجحيم. وبتهديد المجرمين بالانتقام منهم في الأرض أيضا قبل أن يلاقوا مصيرهم الأليم.
ثم ترد إشارة إلى موسى- عليه السّلام- ووحدة رسالته ورسالة محمد- صلّى الله عليه وسلّم- والمهتدين من قومه، وصبرهم على الدعوة، وجزائهم على هذا الصبر بأن جعلهم الله أئمة. وفي هذه الإشارة إيحاء بالصبر على ما يلقاه الدعاة إلى الإسلام من كيد ومن تكذيب.
وتعقب هذه الإشارة جولة في مصارع الغابرين من القرون، وهم يمشون في مساكنهم غافلين.. ثم جولة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء بالحياة والنماء فيتقابل مشهد البلى ومشهد الحياة في سطور.
وتختم السورة بحكاية قولهم: «مَتى هذَا الْفَتْحُ؟» وهم يتساءلون في شك عن يوم الفتح الذي يتحقق فيه الوعيد. والجواب بالتخويف من هذا اليوم والتهديد. وتوجيه الرسول- صلّى الله عليه وسلّم- ليعرض عنهم ويدعهم لمصيرهم المحتوم.
والآن نأخذ في عرض السورة بالتفصيل:
«الم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ: افْتَراهُ؟ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ..
«ألف. لام. ميم» .. هذه الأحرف التي يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكتاب ويعرفون ما يملكون أن يصوغوا منها ومن نظائرها من كلام، ويدركون الفارق الهائل بين ما يملكون أن يصوغوه منها وبين هذا القرآن وهو فارق يدركه كل خبير بالقول، وكل من يمارس التعبير باللفظ عن المعاني والأفكار. كما يدرك أن في النصوص القرآنية قوة خفية، وعنصرا مستكنا، يجعل لها سلطانا وإيقاعا في القلب والحس ليسا لسائر القول المؤلف من أحرف اللغة، مما يقوله البشر في جميع الأعصار. وهي ظاهرة ملحوظة لا سبيل إلى الجدال فيها، لأن السامع يدركها، ويميزها، ويهتز لها، من بين سائر القول، ولو لم يعلم سلفا أن هذا القرآن! والتجارب الكثيرة تؤكد هذه الظاهرة في شتى أوساط الناس.
والفارق بين القرآن وما يصوغه البشر من هذه الحروف من كلام، هو كالفارق بين صنعة الله وصنعة البشر في سائر الأشياء. صنعة الله واضحة مميزة، لا تبلغ إليها صنعة البشر في أصغر الأشياء. وإن توزيع الألوان في زهرة واحدة ليبدو معجزة لأمهر الرسامين في جميع العصور.. وكذلك صنع الله في القرآن وصنع البشر فيما يصوغون من هذه الحروف من كلام! ألف. لام. ميم «تَنْزِيلُ الْكِتابِ- لا رَيْبَ فِيهِ- مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ» .. قضية مقطوع بها، لا سبيل إلى الشك فيها. قضية تنزيل الكتاب من رب العالمين.. ويعجل السياق بنفي الريب في منتصف الآية، بين المبتدأ فيها والخبر، لأن هذا هو صلب القضية، والنقطة المقصودة في النص. والتمهيد لها بذكر هذه الأحرف المقطعة يضع المرتابين الشاكين وجها لوجه أمام واقع الأمر، الذي لا سبيل إلى الجدل فيه. فهذا الكتاب مصوغ من جنس هذه الأحرف التي يعرفون ونمطه هو هذا النمط المعجز الذي لا يمارون في إعجازه،
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2804