نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2777
بكل ظواهرها. وقد يصاحبها انحدار نفسي ناشئ من ضعف الإرادة حتى ليهفو الشيخ أحيانا كما يهفو الطفل، ولا يجد من إرادته عاصما. ومع الشيخوخة الشيب، يذكر تجسيما وتشخيصا لهيئة الشيخوخة ومنظرها.
وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب. إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق: «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ» ..
ولا بد لهذه النشأة المحكمة المقدرة من نهاية كذلك مرسومة مقدرة. هذه النهاية يرسمها في مشهد من مشاهد القيامة، حافل بالحركة والحوار على طريقة القرآن:
«وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ» ..
فهكذا يتضاءل في حسهم كل ما وراءهم قبل هذا اليوم، فيقسمون: ما لبثوا غير ساعة. ويحتمل أن يكون قسمهم منصبا على مدة لبثهم في القبور، كما يحتمل أن يكون ذلك عن لبثهم في الأرض أحياء وأمواتا.
«كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ» ويصرفون عن الحق والتقدير الصحيح حتى يردهم أولو العلم الصحيح إلى التقدير الصحيح:
«وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ. وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
وأولو العلم هؤلاء هم في الغالب المؤمنون، الذين آمنوا بالساعة، وأدركوا ما وراء ظاهر الحياة الدنيا، فهم أهل العلم الصحيح وأهل الإيمان البصير. وهم يردون الأمر هنا إلى تقدير الله وعلمه «لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ» .. فهذا هو الأجل المقدور، ولا يهم طويلا كان أم كان قصيرا. فقد كان ذلك هو الموعد، وقد تحقق:
«فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ..
ثم يختم المشهد بالنتيجة الكلية في إجمال يصور ما وراءه مما لحق بالظالمين الذين كانوا يكذبون بيوم الدين:
«فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» ..
فلا معذرة منهم تقبل ولا يعتب عليهم أحد فيما فعلوه، أو يطلب إليهم الاعتذار. فاليوم يوم العقاب لا يوم العتاب!.
ومن هذا المشهد البائس اليائس يردهم إلى ما هم فيه من عناد وتكذيب، وتلك كانت عاقبة العناد والتكذيب:
«وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ» ..
وهي نقلة بعيدة في الزمان والمكان ولكنها تجيء في السياق، وكأنها قريب من قريب. وينطوي الزمان والمكان، فإذا هم مرة أخرى أمام القرآن، وفيه من كل مثل وفيه من كل نمط من أنماط الخطاب وفيه من كل وسيلة لإيقاظ القلوب والعقول وفيه من شتى اللمسات الموحية العميقة التأثير. وهو يخاطب كل قلب وكل عقل في كل بيئة وكل محيط. وهو يخاطب النفس البشرية في كل حالة من حالاتها، وفي كل
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2777