نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2775
بعد ذلك يمضي السياق يقرر أن الله هو الذي يرسل الرياح، وينزل المطر، ويحيي الأرض بعد موتها، وكذلك يحيي الموتى فيبعثون.. سنة واحدة، وطريقة واحدة، وحلقات في سلسلة الناموس الكبير:
«اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ» .. وفق ناموسه في تكوين هذا الكون وتنظيمه وتصريفه. «فَتُثِيرُ سَحاباً» .
بما تحمله من بخار الماء المتصاعد من كتلة الماء في الأرض. «فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ» .. ويفرشه ويمده. «وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً» .. بتجميعه وتكثيفه وتراكمه بعضه فوق بعض، أو يصطدم بعضه ببعض، أو تنبعث شرارة كهربائية بين طبقة منه وطبقة، أو كسفة منه وكسفة. «فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ» وهو المطر يتساقط من خلال السحاب. «فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ» .. ولا يعرف هذا الاستبشار على حقيقته كما يعرفه الذين يعيشون مباشرة على المطر. والعرب أعرف الناس بهذه الإشارة. وحياتهم كلها تقوم على ماء السماء، وقد تضمنت ذكره أشعارهم وأخبارهم في لهفة وحب وإعزاز! «وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ» ..
وهذا تقرير لحالهم قبل أن ينزل عليهم المطر: حولهم من اليأس والقنوط والهمود.. ثم هم يستبشرون..
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ» ..! انظر إليها في النفوس المستبشرة بعد القنوط، وفي الأرض المستبشرة بعد الهمود وفي الحياة التي تدب في التربة وتدب في القلوب.
«فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها» .. إنها حقيقة واقعة منظورة، لا تحتاج إلى أكثر من النظر والتدبر. ومن ثم يتخذها برهانا على قضية البعث والإحياء في الآخرة. على طريقة الجدل القرآني، الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة، وواقع الحياة المشهودة، مادته وبرهانه ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه:
«إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى» .. «وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» ..
وهذه آثار رحمة الله في الأرض تنطق بصدق هذا الوعد وتؤكد هذا المصير.
وبعد تقرير هذه الحقيقة يمضي في تصوير حال القوم الذين يستبشرون بالرياح المحملة بالماء ويستروحون بآثار رحمة الله عند نزوله من السماء.. يمضي في تصوير حالهم لو كانت الريح التي رأوها مصفرة بما تحمل من رمل وتراب لا من ماء وسحاب- وهي الريح المهلكة للزرع والضرع- أو التي يصفر منها الزرع فيصير حطاما:
«وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ» ..
يكفرون سخطا ويأسا، بدلا من أن يستسلموا لقضاء الله، ويتوجهوا إليه بالضراعة ليرفع عنهم البلاء.
وهي حال من لا يؤمن بقدر الله، ولا يهتدي ببصيرته إلى حكمة الله في تدبيره، ولا يرى من وراء الأحداث يد الله التي تنسق هذا الكون كله وتقدر كل أمر وكل حادث. وفق ذلك التنسيق الشامل للوجود المترابط الأجزاء..
وعند هذا الحد من تصوير تقلبات البشر وفق أهوائهم، وعدم انتفاعهم بآيات الله التي يرونها ماثلة في الكون من حولهم وعدم إدراكهم لحكمة الله من وراء ما يشهدونه من وقائع وأحداث.. عند هذا يتوجه بالخطاب إلى رسول الله- صلّى الله عليه وسلّم- يعزيه عن إخفاق جهوده في هداية الكثير منهم ويرد هذا إلى طبيعتهم التي لا حيلة له فيها، وانطماس بصيرتهم وعماها:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2775