نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2759
في حياتهم المحدودة. والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل، تحكمه نواميس وسنن مستكنة في كيان هذا الوجود وتركيبه.
والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها.
وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود وهو الذي يمنح العلم روحه المدرك لأسرار الوجود. والمؤمنون هذا الإيمان قلة في مجموع الناس. ومن ثم تظل الأكثرية محجوبة عن المعرفة الحقيقية.
«وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ» .. فالآخرة حلقة في سلسلة النشأة، وصفحة من صفحات الوجود الكثيرة.
والذين لا يدركون حكمة النشأة، ولا يدركون ناموس الوجود يغفلون عن الآخرة، ولا يقدرونها قدرها، ولا يحسبون حسابها، ولا يعرفون أنها نقطة في خط سير الوجود، لا تتخلف مطلقا ولا تحيد.
والغفلة عن الآخرة تجعل كل مقاييس الغافلين تختل وتؤرجح في أكفهم ميزان القيم فلا يملكون تصور الحياة وأحداثها وقيمها تصورا صحيحا ويظل علمهم بها ظاهرا سطحيا ناقصا، لأن حساب الآخرة في ضمير الإنسان يغير نظرته لكل ما يقع في هذه الأرض. فحياته على الأرض إن هي إلا مرحلة قصيرة من رحلته الطويلة في الكون. ونصيبه في هذه الأرض إن هو إلا قدر زهيد من نصيبه الضخم في الوجود. والأحداث والأحوال التي تتم في هذه الأرض إن هي إلا فصل صغير من الرواية الكبيرة. ولا ينبغي أن يبني الإنسان حكمه على مرحلة قصيرة من الرحلة الطويلة، وقدر زهيد من النصيب الضخم، وفصل صغير من الرواية الكبيرة! ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ولا ينتظر ما وراءها. لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشؤون. فلكل منهما ميزان، ولكل منهما زاوية للنظر، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال.. هذا يرى ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن، ونواميس شاملة للظاهر والباطن، والغيب والشهادة، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والماضي والحاضر والمستقبل، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء.. وهذا هو الأفق البعيد الواسع الشامل الذي ينقل الإسلام البشرية إليه ويرفعها فيه إلى المكان الكريم اللائق بالإنسان. الخليفة في الأرض. المستخلف بحكم ما في كيانه من روح الله.
ولارتباط تحقق وعد الله بالنصر بالحق الأكبر الذي يقوم عليه هذا الوجود، وارتباط أمر الآخرة كذلك بهذا الحق استطرد يجول بهم جولة أخرى في ضمير هذا الكون. في السماوات والأرض وما بينهما ويردهم إلى أنفسهم ينظرون في أعماقها ويتدبرون، علهم يدركون ذلك الحق الكبير، الذي يغفلون عنه حين يغفلون عن الآخرة ويغفلون عن الدعوة التي تقودهم إلى رؤية ذلك الحق وتدبره:
«أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ» .
فطبيعة تكوينهم هم أنفسهم، وطبيعة هذا الكون كله من حولهم توحي بأن هذا الوجود قائم على الحق، ثابت على الناموس، لا يضطرب، ولا تتفرق به السبل، ولا تتخلف دورته، ولا يصطدم بعضه ببعض،
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2759