نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2604
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ. وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»
..
والدعاء كله ليس فيه طلب لعرض من أعراض هذه الأرض ولا حتى صحة البدن. إنه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى تحركه مشاعر أصفى. ودعاء القلب الذي عرف الله فأصبح يحتقر ما عداه. والذي ذاق فهو يطلب المزيد والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد.
«رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً» .. أعطني الحكمة التي أعرف بها القيم الصحيحة والقيم الزائفة، فأبقى على الدرب يصلني بما هو أبقى.
«وألحقني بالصالحين» .. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين! «وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ» .. دعوة تدفعه إليها الرغبة في الامتداد، لا بالنسب ولكن بالعقيدة فهو يطلب إلى ربه أن يجعل له فيمن يأتون أخيرا لسان صدق يدعوهم إلى الحق، ويردهم إلى الحنيفية السمحاء دين إبراهيم. ولعلها هي دعوته في موضع آخر. إذ يرفع قواعد البيت الحرام هو وابنه إسماعيل ثم يقول: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ. وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ، وَأَرِنا مَناسِكَنا، وَتُبْ عَلَيْنا، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [1] » .. وقد استجاب الله له، وحقق دعوته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، وبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.. وكانت الاستجابة بعد آلاف من السنين. هي في عرف الناس أمد طويل، وهي عند الله أجل معلوم، تقتضي حكمته أن تتحقق الدعوة المستجابة فيه.
«وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وقد دعا ربه- من قبل- أن يلحقه بالصالحين، بتوفيقه إلى العمل الصالح، الذي يسلكه في صفوفهم. وجنة النعيم يرثها عباد الله الصالحون.
«وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ذلك على الرغم مما لقيه إبراهيم- عليه السّلام- من أبيه من غليظ القول وبالغ التهديد. ولكنه كان قد وعده أن يستغفر له، فوفى بوعده. وقد بين القرآن فيما بعد أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولو كانوا أولي قربى وقرر أن إبراهيم استغفر لأبيه بناء على موعدة وعدها إياه «فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه» وعرف أن القرابة ليست قرابة النسب، إنما هي قرابة العقيدة.. وهذه إحدى مقومات التربية الإسلامية الواضحة. فالرابطة الأولى هي رابطة العقيدة في الله، ولا تقوم صلة بين فردين من بني البشر إلا على أساسها. فإذا قطعت هذه الصلة أنبتت سائر الوشائج وكانت البعدى التي لا تبقى معها صلة ولا وشيجة.
«وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» .. ونستشف من قولة إبراهيم- عليه السّلام-: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ» مدى شعوره بهول اليوم الآخر ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره. وهو النبي الكريم. كما نستشف من قوله: «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» . مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض. وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي- [1] الآيات 127، 128، 129 من سورة البقرة.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2604