نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2602
«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ، إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: ما تَعْبُدُونَ؟» ..
اتل عليهم نبأ إبراهيم الذي يزعمون أنهم ورثته، وأنهم يتبعون ديانته. اتله عليهم وهو يستنكر ما كان يعبده أبوه وقومه من أصنام كهذه الأصنام التي يعبدها المشركون في مكة وهو يخالف أباه وقومه في شركهم، وينكر عليهم ما هم عليه من ضلال، ويسألهم في عجب واستنكار: «ما تعبدون؟» .
«قالُوا: نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» ! وهم كانوا يسمون أصنامهم آلهة. فحكاية قولهم: إنها أصنام. تنبىء بأنهم لم يكونوا يملكون إنكار أنها أصنام منحوتة من الحجر، وأنهم مع ذلك يعكفون لها، ويدأبون على عبادتها. وهذه نهاية السخف. ولكن العقيدة متى زاغت لم يفطن أصحابها إلى ما تنحط إليه عبادتهم وتصوراتهم ومقولاتهم! ويأخذ إبراهيم- عليه السّلام- يوقظ قلوبهم الغافية، وينبه عقولهم المتبلدة، إلى هذا السخف الذي يزاولونه دون وعي ولا تفكير:
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ؟» فأقل ما يتوفر لإله يعبد أن يكون له سمع كعابده الذي يتوجه إليه بالعبادة والابتهال! وهذه الأصنام لا تسمع عبادها وهم يتوجهون إليها بالعبادة، ويدعونها للنفع والضر. فإن كانت صماء لا تسمع فهل هي تملك النفع والضر؟ لا هذا ولا ذاك يمكن أن يدعوه! ولم يجب القوم بشيء عن هذا فهم لا يشكون في أن إبراهيم إنما يتهكم ويستنكر وهم لا يملكون حجة لدفع ما يقول. فإذا تكلموا كشفوا عن التحجر الذي يصيب المقلدين بلا وعي ولا تفكير:
«قالُوا: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ» ..
إن هذه الأصنام لا تسمع ولا تضر ولا تنفع. ولكنا وجدنا آباءنا يعكفون عليها، فعكفنا عليها وعبدناها! وهو جواب مخجل. ولكن المشركين لم يخجلوا أن يقولوه، كما لم يخجل المشركون في مكة أن يفعلوه. فقد كان فعل الآباء لأمر كفيلا باعتباره دون بحث بل لقد كان من العوائق دون الإسلام أن يرجع المشركون عن دين آبائهم، فيخلوا باعتبار أولئك الآباء، ويقروا أنهم كانوا على ضلال. وهذا ما لا يجوز في حق الذاهبين! وهكذا تقوم مثل هذه الاعتبارات الجوفاء في وجه الحق، فيؤثرونها على الحق، في فترات التحجر العقلي والنفسي والانحراف التي تصيب الناس، فيحتاجون معها إلى هزة قوية تردهم إلى التحرر والانطلاق والتفكير.
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم- على حلمه وأناته- إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! «قالَ: أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ؟ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ..
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم- وهم آباؤه- الأقدمون! وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون.
واستثنى إبراهيم «رب العالمين» من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» ..
فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف وقد يكون من عبد الله ولكن
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 5 صفحه : 2602