نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2473
وهؤلاء هم الذين يسارعون في الخيرات، وهم الذين يسبقون لها فينالونها في الطليعة، بهذه اليقظة، وبهذا التطلع، وبهذا العمل، وبهذه الطاعة. لا أولئك الذين يعيشون في غمرة ويحسبون لغفلتهم أنهم مقصودون بالنعمة، مرادون بالخير، كالصيد الغافل يستدرج إلى مصرعه بالطعم المغري. ومثل هذا الطير في الناس كثير، يغمرهم الرخاء، وتشغلهم النعمة، ويطغيهم الغنى، ويلهيهم الغرور، حتى يلاقوا المصير! تلك اليقظة التي يفرضها الإسلام على قلب المسلم. والتي يستجيشها الإيمان بمجرد استقراره في القلوب..
ليست أمرا فوق الطاقة، وليست تكليفا فوق الاستطاعة. إنما هي الحساسية الناشئة من الشعور بالله والاتصال به ومراقبته في السر والعلن وهي في حدود الطاقة الإنسانية، حين يشرق فيها ذلك النور الوضيء:
«وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» ..
ولقد شرع الله التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة، لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون ولا ببخسهم شيئا مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل «يَنْطِقُ بِالْحَقِّ» ويبرزه ظاهرا غير منقوص. والله خير الحاسبين.
إنما يغفل الغافلون لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسسها نوره المحيي، لانشغالها عنه، واندفاعها في التيه حتى تفيق على الهول، لتلقى العذاب الأليم، وتلقى معه التوبيخ والتحقير:
«بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا، وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ. حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ. قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ» ..
فعلة اندفاعهم فيما هم فيه ليست هي تكليفهم بما هو فوق الطاقة إنما العلة أن قلوبهم في غمرة، لا ترى الحق الذي جاء به القرآن، وأنهم مندفعون في طريق آخر غير النهج الذي جاء به: «وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ» ..
ثم يرسم مشهد انتباههم على الكارثة الباغتة المفاجئة: «حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ» ..
والمتفرون أشد الناس استغراقا في المتاع والانحراف والذهول عن المصير. وها هم أولاء يفاجأون بالعذاب الذي يأخذهم أخذا، فإذا هم يرفعون أصواتهم بالجؤار، مستغيثين مسترحمين (وذلك في مقابل الترف والغفلة والاستكبار والغرور) ثم ها هم أولاء يتلقون الزجر والتأنيب: «لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ» ..
وإذا المشهد حاضر، وهم يتلقون الزجر والتأنيب، والتيئيس من كل نجدة ومن كل نصير، والتذكير بما كان منهم وهم في غمرتهم مستغرقون: «قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ» فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه، أو مكروه تجانبونه، مستكبرين عن الإذعان للحق. ثم تزيدون على هذا سوء القول وهجره في سمركم، حيث تتناولون الرسول- صلى الله عليه وسلم- وما جاء به بكلمات السوء.
ولقد كانوا يطلقون ألسنتهم بهجر القول وفحشه في مجالسهم وهم يتحلقون حول الأصنام في سامرهم بالكعبة. فها هو ذا القرآن يرسم لهم مشهد حسابهم على ما هم فيه وهم يجأرون طالبين الغوث، فيذكرهم بسمرهم الفاحش، وهجرهم القبيح. وكأنما هو واقع اللحظة، وهم يشهدونه ويعيشون فيه! وذلك على
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2473