responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2303
إنه فيض الكرم الإلهي يغدقه على عبده الذي دعاه في ضراعة، وناجاه في خفية، وكشف له عما يخشى، وتوجه إليه فيما يرجو. والذي دفعه إلى دعاء ربه خوفه الموالي من بعده على تراث العقيدة وعلى تدبير المال والقيام على الأهل بما يرضي الله. وعلم الله ذلك من نيته فأغدق عليه وأرضاه.
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فإذا هو يواجه الواقع.. إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا، وهن عظمه واشتعل شيبه، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه: فكيف يا ترى سيكون له غلام؟ إنه ليريد أن يطمئن، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام:
«قالَ: رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟» .
إنه يواجه الواقع، ويواجه معه وعد الله. وإنه ليثق بالوعد، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه. وهي حالة نفسية طبيعية. في مثل موقف زكريا النبي الصالح.
الإنسان! الذي لا يملك أن يغفل الواقع، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله! هنا يأتيه الجواب عن سؤاله: أن هذا هين على الله سهل. ويذكره بمثل قريب في نفسه: في خلقته هو وإيجاده بعد أن لم يكن. وهو مثل لكل حي، ولكل شيء في هذا الوجود:
«قالَ: كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً» .
وليس في الخلق هين وصعب على الله. ووسيلة الخلق للصغير والكبير، وللحقير والجليل واحدة:
كن. فيكون.
والله هو الذي جعل العاقر لا تلد. وجعل الشيخ الفاني لا ينسل وهو قادر على إصلاح العاقر وإزالة سبب العقم، وتجديد قوة الإخصاب في الرجل. وهو أهون في اعتبار الناس من إنشاء الحياة ابتداء. وإن كان كل شيء هينا على القدرة: إعادة أو إنشاء.
ومع ذلك فإن لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به أن يطلب آية وعلامة على تحقق البشرى فعلا. فأعطاه الله آية تناسب الجو النفسي الذي كان فيه الدعاء وكانت فيه الاستجابة.. ويؤدي بها حق الشكر لله الذي وهبه على الكبر غلاما.. وذلك أن ينقطع عن دنيا الناس ويحيا مع الله ثلاث ليال ينطلق لسانه إذا سبح ربه، ويحتبس إذا كلم الناس، وهو سوي معافى في جوارحه لم يصب لسانه عوج ولا آفة.
«قالَ: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا» ..
وكان ذلك:
«فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» ..
ذلك ليعيشوا في مثل الجو الذي يعيش فيه، وليشكروا الله معه على ما أنعم عليه وعليهم من بعده.
ويترك السياق زكريا في صمته وتسبيحه، ويسدل عليه الستار في هذا المشهد ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على يحيى يناديه ربه من الملأ الأعلى:
«يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ... » .
لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيا، في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين. على طريقة القرآن في عرضه الفني للقصص، ليبرز أهم الحلقات والمشاهد، وأشدها حيوية وحركة.

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2303
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست