نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2292
ثم عاد ذو القرنين من رحلة المغرب إلى رحلة المشرق، ممكنا له في الأرض، ميسرة له الأسباب:
«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً. كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً» .
وما قيل عن مغرب الشمس يقال عن مطلعها. فالمقصود هو مطلعها من الأفق الشرقي في عين الرائي.
والقرآن لم يحدد المكان. ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذي وجدهم ذو القرنين هناك: «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» .. أي إنها أرض مكشوفة، لا تحجبها عن الشمس مرتفعات ولا أشجار. فالشمس تطلع على القوم فيها حين تطلع بلا ساتر.. وهذا الوصف ينطبق على الصحارى والسهوب الواسعة. فهو لا يحدد مكانا بعينه. وكل ما نرجحه أن هذا المكان كان في أقصى الشرق حيث يجد الرائي أن الشمس تطلع على هذه الأرض المستوية المكشوفة، وقد يكون ذلك على شاطىء إفريقية الشرقي. وهناك احتمال لأن يكون المقصود بقوله: «لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» أنهم قوم عراة الأجسام لم يجعل لهم سترا من الشمس ...
ولقد أعلن ذو القرنين من قبل دستوره في الحكم، فلم يتكرر بيانه هنا، ولا تصرفه في رحلة المشرق لأنه معروف من قبل، وقد علم الله كل ما لديه من أفكار واتجاهات.
ونقف هنا وقفة قصيرة أمام ظاهرة التناسق الفني في العرض.. فإن المشهد الذي يعرضه السياق هو مشهد مكشوف في الطبيعة: الشمس ساطعة لا يسترها عن القوم ساتر. وكذلك ضمير ذي القرنين ونواياه كلها مكشوفة لعلم الله.. وكذلك يتناسق المشهد في الطبيعة وفي ضمير ذي القرنين على طريقة التنسيق القرآنية الدقيقة.
«ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً. حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا؟ قالَ: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ: انْفُخُوا. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً. قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» .
ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين «بَيْنَ السَّدَّيْنِ» ولا ما هما هذان السدان. كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين. تفصلهما فجوة أو ممر. فوجد هنالك قوما متخلفين: «لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا» .
وعند ما وجدوه فاتحا قويا، وتوسموا فيه القدرة والصلاح.. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فسادا ولا يقدرون هم على دفعهم وصدهم.. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم.
وتبعا للمنهج الصالح الذي أعلنه ذلك الحاكم الصالح من مقاومة الفساد في الأرض فقد رد عليهم عرضهم الذي عرضوه من المال وتطوع بإقامة السد ورأى أن أيسر طريقة لإقامته هي ردم الممر بين الحاجزين الطبيعيين فطلب إلى أولئك القوم المتخلفين أن يعينوه بقوتهم المادية والعضلية: «فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً. آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» .. فجمعوا له قطع الحديد، وكومها في الفتحة بين الحاجزين، فأصبحا
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2292