نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2221
«وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ..
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك. أمر في صورة قضاء. فهو أمر حتمي حتمية القضاء. ولفظة «قَضى» تخلع على الأمر معنى التوكيد، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد.
فإذا وضعت القاعدة، وأقيم الأساس، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال.
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة، هي رابطة الأسرة، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله:
«وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما: أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً» .
بهذه العبارات الندية، والصور الموحية، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.
ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام. إلى الذرية. إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء. إلى الأبوة. إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد. إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية- إن أمهلهما الأجل- وهما مع ذلك سعيدان! فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام. إلى الزوجات والذرية.. وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء. إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف! وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان:
«إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما» .. والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه وكلمة «عِنْدَكَ» تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف.. «فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما» وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب..
«وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً» وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما يشي بالإكرام والاحترام. «وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ» وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا، ولا يرفض أمرا. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2221