نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2186
وهو غيب قريب، ولكنه موغل بعيد. وأطوار الجنين قد يراها الناس، ولكنهم لا يعلمون كيف تتم، لأن سرها هو سر الحياة المكنون. والعلم الذي يدعيه الإنسان ويتطاول به ويريد أن يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب، علم حادث مكسوب: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً» ومولد كل عالم وكل باحث، ومخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئاً قريب قريب! وما كسبه بعد ذلك من علم هبة من الله بالقدر الذي أراده للبشر، وجعل فيه كفاية حياتهم على هذا الكوكب، في المحيط المكشوف لهم من هذا الوجود: «وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ» والقرآن يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكنه والعمل. جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم. وأول الشكر:
الإيمان بالله الواحد المعبود.
وعجيبة أخرى من آثار القدرة الإلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون:
«أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» ..
ومشهد الطير مسخرات في جو السماء مشهد مكرور، قد ذهبت الألفة بما فيه من عجب، وما يتلفت القلب البشري عليه إلا حين يستيقظ، ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب. وإن تحليقة طائر في جو السماء لتستجيش الحس الشاعر إلى القصيدة حين تلمسه. فينتفض للمشهد القديم الجديد.. «ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ» بنواميسه التي أودعها فطرة الطير وفطرة الكون من حولها، وجعل الطير قادرة على الطيران، وجعل الجو من حولها مناسباً لهذا الطيران وأمسك بها الطير لا تسقط وهي في جو السماء: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .. فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر ببدائع الخلق والتكوين، المدرك لما فيها من روعة باهرة تهز المشاعر وتستجيش الضمائر.
وهو يعبر عن أحساسه بروعة الخلق، بالإيمان والعبادة والتسبيح والموهوبون من المؤمنين هبة التعبير، قادرون على إبداع ألوان من رائع القول في بدائع الخلق والتكوين، لا يبلغ إليها شاعر لم تمس قلبه شرارة الإيمان المشرق الوضيء.
ويخطو السياق خطوة أخرى في أسرار الخلق وآثار القدرة ومظاهر النعمة، يدخل بها إلى بيوت القوم وما يسر لهم فيها وحولها من سكن ومتاع وأكنان وظلال! «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ. كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ» ..
والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها إلا المشردون الذين لا بيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة. وذكرها في السياق يجيء بعد الحديث عن الغيب، وظل السكن ليس غريباً عن ظل الغيب، فكلاهما فيه خفاء وستر. والتذكير بالسكن يمس المشاعر الغافلة عن قيمة هذه النعمة.
ونستطرد هنا إلى شيء عن نظرة الإسلام إلى البيت، بمناسبة هذا التعبير الموحي: «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً» .. فهكذا يريد الإسلام البيت مكاناً للسكينة النفسية والاطمئنان الشعوري. هكذا يريده مريحاً تطمئن إليه النفس وتسكن وتأمن سواء بكفايته المادية للسكنى والراحة، أو باطمئنان من فيه بعضهم
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2186