responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2139
وهنا نصل إلى الأرض الصلبة التي نستوي عليها مطمئنين..
- لقد كان خلق الشيطان- من قبل- من نار السموم. فهو سابق إذن للإنسان في الخلق. هذا ما نعلمه. أما كيف هو وكيف كان خلقه. فذلك شأن آخر. ليس لنا أن نخوض فيه. إنما ندرك من صفاته بعض صفات نار السموم. ندرك من صفاته التأثير في عناصر الطين بحكم أنه من النار. والأذى والمسارعة فيه بحكم أنها نار السموم. ثم تنكشف لنا من ثنايا القصة صفة الغرور والاستكبار. وهي ليست بعيدة في التصور عن طبيعة النار! ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء ومنحته خصائصه الإنسانية، التي أفردته منذ نشأته عن كل الكائنات الحية فسلك طريقاً غير طريقها منذ الابتداء. بينما بقيت هي في مستواها الحيواني لا تتعداه! هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى وتجعله أهلاً للاتصال بالله، وللتلقي عنه ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به وراء الزمان والمكان، ووراء طاقة العضلات والحواس، إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان.
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه، ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجاته: من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات. ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات.. هذا مع أن هذا الكائن «مركّب» منذ البدء من هذين الأفقين اللذين لا ينفصلان فيه. طبيعته طبيعة «المركّب» لا طبيعة «المخلوط» أو «الممزوج!» .. ولا بد من ملاحظة هذه الحقيقة ودقة تصورها كلما تحدثنا عن تركيب الإنسان من الطين ومن النفخة العلوية التي جعلت منه هذا المخلوق الفريد التكوين.. إنه لا انفصال بين هذين الأفقين في تكوينه، ولا تصرف لأحدهما بدون الآخر في حالة واحدة من حالاته. إنه لا يكون طيناً خالصاً في لحظة، ولا يكون روحاً خالصاً في لحظة ولا يتصرف تصرفاً واحداً إلا بحكم تركيبه الذي لا يقع فيه الانفصال! والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه ان يبلغه، وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوباً منه أن يتخلى عن طبيعة أحد عنصريه ومطالبه ليكون مَلَكا أو ليكون حيوانا. وليس واحد منهما هو الكمال المنشود للإنسان. والارتفاع الذي يخل بالتوازن المطلق نقص بالقياس إلى هذا المخلوق وخصائصه الأصيلة، والحكمة التي من أجلها خلق على هذا النحو الخاص.
والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة..
كلاهما يخرج على سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له. وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل. وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.
من أجل هذا أنكر الرسول- صلى الله عليه وسلم- على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. انكر عليهم كما ورد في حديث عائشة- رضي الله عنها- وقال: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» .
وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك وأقام له عليها نظاماً بشرياً لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات، لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف ولا اعتداء من إحداها على الأخرى. فكل اعتداء يقابله تعطيل. وكل طغيان يقابله تدمير.

نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب    جلد : 4  صفحه : 2139
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست