نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2134
ذات ثقل، وإن كان معناها أن كل نبت في هذه الأرض في خلقه دقة وإحكام وتقدير.. ويشترك في ظل التضخيم جمع «معايش» وتنكيرها، وكذلك «ومن لستم له برازقين» من كل ما في الأرض من أحياء على وجه الإجمال والإبهام. فكلها تخلع ظل الضخامة الذي يجلل المشهد المرسوم.
والآية الكونية هنا تتجاوز الآفاق إلى الأنفس. فهذه الأرض الممدودة للنظر والخطو وهذه الرواسي الملقاه على الأرض، تصاحبها الإشارة إلى النبت الموزون ومنه إلى المعايش التي جعلها الله للناس في هذه الأرض. وهي الأرزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها. وهي كثيرة شتى، يجملها السياق هنا ويبهمها لتلقي ظل الضخامة كما أسلفنا. جعلنا لكم فيها معايش، وجعلنا لكم كذلك «من لستم له برازقين» . فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الأرض. وما أنتم إلا أمة من هذه الأمم التي لا تحصى. أمة لا ترزق سواها إنما الله يرزقها ويرزق سواها، ثم يتفضل عليها فيجعل لمنفعتها ومتاعها وخدمتها أمماً أخرى تعيش من رزق الله، ولا تكلفها شيئاً.
هذه الأرزاق- ككل شيء- مقدرة في علم الله، تابعة لأمره ومشيئته، يصرفها حيث يشاء وكما يريد، في الوقت الذي يريده حسب سنته التي ارتضاها، وأجراها في الناس والأرزاق:
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» ..
فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئاً، إنما خزائن كل شيء- مصادره وموارده- عند الله. في علاه.
ينزله على الخلق في عوالمهم «بقدر معلوم» فليس من شيء ينزل جزافاً، وليس من شيء يتم اعتباطاً.
ومدلول هذا النص المحكم: «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» يتجلى بوضوح أكثر كلما تقدم الإنسان في المعرفة، وكلما اهتدى إلى أسرار تركيب هذا الكون وتكوينه. ومدلول «خزائنه» يتجلى في صورة أقرب بعد ما كشف الإنسان طبيعة العناصر التي يتألف منها الكون المادي وطبيعة تركيبها وتحليلها- إلى حد ما- وعرف مثلاً أن خزائن الماء الأساسية هي ذرات الايدروجين والأكسوجين! وأن من خزائن الرزق المتمثل في النبات الأخضر كله ذلك الآزوت الذي في الهواء! وذلك الكربون وذلك الأكسجين المركب في ثاني أكسيد الكربون! وتلك الأشعة التي ترسل بها الشمس أيضاً! ومثل هذا كثير يوضح دلالة خزائن الله التي توصل الإنسان إلى معرفة شيء منها.. وهو شيء على كثرته قليل قليل ... «1»
ومما يرسله الله بقدر معلوم الرياح والماء:
«وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ، فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماء فَأَسْقَيْناكُمُوهُ. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» ..
أرسلنا الرياح لواقح بالماء «2» ، كما تلقح الناقة بالنتاج فانزلنا من السماء ماء مما حملت الرياح، فأسقينا كموه فعشتم به:
«وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ» ..
(1- 2) أراد بعضهم أن يفسر لواقح هنا بالمعنى العلمي الذي كشف وهو أن الرياح تحمل اللقاح من شجرة إلى شجرة. ولكن السياق هنا يشير إلى أنها لواقح بالماء دون سواه «فأنزلنا من السماء ماء فأسقينا كموه» وليس هناك ذكر ولو من بعيد للإنبات حتى يكون هناك ظل في المشهد للنبات، والتعبير القرآني دقيق في رسم ظلال المشاهد من قريب ومن بعيد. يدرك ذلك من يعيش في ظلال القرآن ناجيا من الشوائب والإيحاءات الغريبة، حتى يتكون له حس قرآني بريء من تلك الشوائب والإيحاءات الغريبة! وعندئذ يلفظ حسه كل تأويل غريب دخيل!
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2134