نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2129
هذا الكتاب المحفوظ، الذي لا حماية له من أهله المنتسبين إليه وهم بعد أن نبذوه وراء ظهورهم غثاء كغثاء السيل لا يدفع ولا يمنع فدل هذا مرة أخرى على ربانية هذا الكتاب، وشهدت هذه المعجزة الباهرة بأنه حقاً تنزيل من عزيز حكيم.
لقد كان هذا الوعد على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مجرد وعد. أما هو اليوم- من وراء كل تلك الأحداث الضخام ومن وراء كل تلك القرون الطوال. فهو المعجزة الشاهدة بربانية هذا الكتاب، والتي لا يماري فيها إلا عنيد جهول:
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» .. وصدق الله العظيم..
ويعزي الله سبحانه نبيه- صلى الله عليه وسلم- فيخبره أنه ليس بدعاً من الرسل الذين لقوا الاستهزاء والتكذيب، فهكذا المكذبون دائماً في عنادهم الذميم:
«وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» ..
وعلى هذا النحو الذي تلقى به المكذبون أتباع الرسل ما جاءهم به رسلهم، يتلقى المكذبون المجرمون من أتباعك ما جئتهم به. وعلى هذا النحو نجري هذا التكذيب في قلوبهم التي لا تتدبر ولا تحسن الاستقبال، جزاء ما أعرضت وأجرمت في حق الرسل المختارين:
«كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
نَسلُكه في قلوبهم مكذّباً بما فيه مستهزأ به لأن هذه القلوب لا تحسن أن تتلقاه إلا على هذا النحو. سواء في هذا الجيل أم في الأجيال الخالية أم في الأجيال اللاحقة فالمكذبون أمة واحدة، من طينة واحدة:
«وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ» ..
وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الإيمان، فهم معاندون ومكابرون، مهما تأتهم من آية بينة فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون.
وهنا يرسم السياق نموذجاً باهراً للمكابرة المرذولة والعناد البغيض:
«وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» ..
ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب يفتح لهم فيها. يصعدون بأجسامهم، ويرون الباب المفتوح أمامهم، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها.. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون: لا. لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكّر أبصارنا وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل:
«إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ» ..
سكر أبصارنا مسكر وسحرنا ساحر، فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسكّر مسحور! يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء. ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان. وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل.
فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء وبلا تحرج وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف! إنه نموذج بشري للمكابرة والاستغلاق والانطماس يرسمه التعبير، مثيراً لشعور الاشمئزاز والتحقير..
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2129