نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2086
وإن وراء هذا التعبير القصير: «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ..» لآفاقاً بعيدة لحقائق ضخمة عميقة في عالم العقل والقلب. وفي عالم الحياة والواقع، لا يبلغها التعبير البشري ولكنه يشير! «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ.. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» ..
فليس في قدرة الرسول إلا البلاغ، وليس من وظيفته إلا البيان. أما إخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإنما يتحقق بإذن الله، وفق سنته التي ارتضتها مشيئته، وما الرسول إلا رسول! «لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ» .. «إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» ..
فالصراط بدل من النور. وصراط الله: طريقه، وسنته، وناموسه الذي يحكم الوجود وشريعته التي تحكم الحياة. والنور يهدي إلى هذا الصراط، أو النور هو الصراط. وهو أقوى في المعنى. فالنور المشرق في ذات النفس هو المشرق في ذات الكون. هو السنة. هو الناموس. هو الشريعة. والنفس التي تعيش في هذا النور لا تخطئ الإدراك ولا تخطئ التصور ولا تخطئ السلوك. فهي على صراط مستقيم.. «صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» .. مالك القوة القاهر المسيطر المحمود المشكور.
والقوة تبرز هنا لتهديد من يكفرون، والحمد يبرز لتذكير من يشكرون.. ثم يعقبها التعريف بالله سبحانه.
إنه مالك ما في السماوات وما في الأرض، الغني عن الناس، المسيطر على الكون وما فيه ومن فيه:
«اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» ..
فمن خرج واهتدى فذاك. ولا يذكر عنه شيئاً هنا، إنما يمضي السياق إلى تهديد الكافرين ينذرهم بالويل من عذاب شديد. جزاء كفرهم هذه النعمة. نعمة إرسال الرسول بالكتاب ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
وهي النعمة الكبرى التي لا يقوم لها شكر إنسان. فكيف بالكفران:
«وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ» ..
ثم يكشف عن صفة تحمل معنى العلة لكفر الكافرين بنعمة الله التي يحملها رسوله الكريم:
«الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ» .. «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً، أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ» ..
فاستحباب الحياة الدنيا على الآخرة يصطدم بتكاليف الإيمان ويتعارض مع الاستقامة على الصراط.
وليس الأمر كذلك حين تستحب الآخرة، لأنه عندئذ تصلح الدنيا، ويصبح المتاع بها معتدلاً، ويراعى فيه وجه الله. فلا يقع التعارض بين استحباب الآخرة ومتاع هذه الحياة.
إن الذين يوجهون قلوبهم للآخرة، لا يخسرون متاع الحياة الدنيا- كما يقوم في الأخيلة المنحرفة- فصلاح الآخرة في الإسلام يقتضي صلاح هذه الدنيا. والإيمان بالله يقتضي حسن الخلافة في الأرض. وحسن الخلافة في الأرض هو استعمارها والتمتع بطيباتها. إنه لا تعطيل للحياة في الإسلام انتظاراً للآخرة، ولكن تعمير للحياة بالحق والعدل والاستقامة ابتغاء رضوان الله، وتمهيداً للآخرة.. هذا هو الإسلام.
فأما الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، فلا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم من الاستئثار بخيرات الأرض، ومن الكسب الحرام، ومن استغلال الناس وغشهم واستعبادهم.. لا يملكون أن يصلوا إلى غاياتهم هذه في نور الإيمان بالله، وفي ظل الاستقامة على هداه. ومن ثم يصدون عن سبيل الله. يصدون أنفسهم ويصدون الناس، ويبغونها عوجاً لا استقامة فيها ولا عدالة. وحين يفلحون في صد أنفسهم وصد غيرهم عن سبيل الله، وحين يتخلصون من استقامة سبيله وعدالتها، فعندئذ فقط يملكون أن يظلموا وأن يطغوا وأن
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2086