نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2005
كل أولئك أوقع في نفس الملك احترام هذا الرجل وحبه فقال:
«ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» ..
فهو لا يأتي به من السجن ليطلق سراحه ولا ليرى هذا الذي يفسر الرؤى ولا ليسمعه كلمة «الرضاء الملكي السامي!» فيطير بها فرحاً.. كلا! إنما يطلبه ليستخلصه لنفسه، ويجعله بمكان المستشار واَلنجيّ والصديق..
فيا ليت رجالاً يمرغون كرامتهم على أقدام الحكام- وهم أبرياء مطلقو السراح- فيضعوا النير في أعناقهم بأيديهم ويتهافتوا على نظرة رضى وكلمة ثناء، وعلى حظوة الأتباع لا مكانة الأصفياء.. يا ليت رجالاً من هؤلاء يقرأون هذا القرآن، ويقرأون قصة يوسف، ليعرفوا أن الكرامة والإباء والاعتزاز تدر من الربح- حتى المادي- أضعاف ما يدره التمرغ والتزلف والانحناء! «وَقالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي» ..
ويحذف السياق جزئية تنفيذ الأمر لنجد يوسف مع الملك..
«فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ» ..
فلما كلمه تحقق له صدق ما توسمه. فإذا هو يطمئنه على أنه عند الملك ذو مكانة وفي أمان. فليس هو الفتى العبراني الموسوم بالعبودية. إنما هو مكين. وليس هو المتهم المهدد بالسجن. إنما هو أمين. وتلك المكانة وهذا الأمان لدى الملك وفي حماه. فماذا قال يوسف؟
إنه لم يسجد شكراً كما يسجد رجال الحاشية المتملقون للطواغيت. ولم يقل له: عشت يا مولاي وأنا عبدك الخاضع أو خادمك الأمين، كما يقول المتملقون للطواغيت! كلا إنما طالب بما يعتقد أنه قادر على أن ينهض به من الأعباء في الأزمة القادمة التي أوّل بها رؤيا الملك، خيراً مما ينهض بها أحد في البلاد وبما يعتقد أنه سيصون به أرواحاً من الموت وبلاداً من الخراب، ومجتمعاً من الفتنة- فتنة الجوع- فكان قوياً في إدراكه لحاجة الموقف إلى خبرته وكفايته وأمانته، قوته في الاحتفاظ بكرامته وإبائه:
«قالَ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ. إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
والأزمة القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها في حاجة إلى الحفظ والصيانة والقدرة على إدارة الأمور بالدقة وضبط الزراعة والمحاصيل وصيانتها. وفي حاجة إلى الخبرة وحسن التصرف والعلم بكافة فروعه الضرورية لتلك المهمة في سنوات الخصب وفي سني الجدب على السواء. ومن ثم ذكر يوسف من صفاته ما تحتاج إليه المهمة التي يرى أنه أقدر عليها، وأن وراءها خيراً كبيراً لشعب مصر وللشعوب المجاورة:
«إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» ..
ولم يكن يوسف يطلب لشخصه وهو يرى إقبال الملك عليه فيطلب أن يجعله على خزائن الأرض.. إنما كان حصيفاً في اختيار اللحظة التي يستجاب له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعة الضخمة في أشد أوقات الأزمة وليكون مسؤولاً عن إطعام شعب كامل وشعوب كذلك تجاوره طوال سبع سنوات، لا زرع فيها ولا ضرع. فليس هذا غنماً يطلبه يوسف لنفسه. فإن التكفل بإطعام شعب جائع سبع سنوات متوالية لا يقول أحد إنه غنيمة. إنما هي تبعة يهرب منها الرجال، لأنها قد تكلفهم رؤوسهم، والجوع كافر، وقد تمزق الجماهير الجائعة أجسادهم في لحظات الكفر والجنون.
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 4 صفحه : 2005